فتحي كليب****
لا نأتي بجديد عندما نقول ان الاستيطان يشكل بالنسبة للمشروع الصهيوني المحور الذي يحرك الحركة الصهيونية في جهودها الهادفة الى تأكيد احقية اليهود بأرض فلسطين. وتطبيقا لهذا المبدأ جندت (اسرئيل)، باعتبارها احدى ادوات هذا المشروع، كل ما تملك من اجل تعزيز الاستيطان على امتداد اراضي فلسطين التاريخية غير آبهة باحتجاجات واستنكارات دولية وغير مهتمة بقرارات دولية وبمواثيق حقوق انسان وغير ذلك من ردود الافعال التي لا زالت على حالها منذ بناء اول مستوطنة “بتاح تكفا” في فلسطين عام 1878.
لعل معرفة القيادة الفلسطينية بهذه الخطورة هي التي دفعتها للتوجه نحو المحكمة الدولية اولا والحديث عن وضع قضية الاستيطان امامها، وثانيا التوجه الى مجلس الامن لانتزاع قرار يدين الاستيطان ثم الاستقواء بهذا القرار تمهيدا لطرحه امام محكمة الجنايات الدولية، خاصة وان الاستيطان يرقي وفقا لجميع القوانين والمعاهدات الدولية والانسانية والحقوقية الى مرتبة جرائم الحرب.. لأن ما يميز الاستيطان اليهودي في فلسطين طابعه الاحلالي والاجلائي (اي شعب مقابل شعب). وبالتالي ووفقا لذلك لا ينبغي الحديث عن اي امكانية للتعايش بين الفلسطينيين والمستوطنين او بين الدولة الفلسطينية القادمة ودولة المستوطنين، باعتبار ان طبيعة الصراع في الضفة الغربية والقدس هو صراع وجودي.. فاما الشعب الفسطيني ودولته واما دولة المستوطنين.
ويبدو ان القضية الفلسطينية، وفي ظل السياسات الفلسطينية والعربية الخاطئة، ستبقى والى حين موضع تجارب واختبار من قبل الادارة الامريكية. فعندما وصل الرئيس الامريكي السابق اوباما الى السلطة، اطلق مجموعة من المواقف المتقدمة في حينه حول الاحتلال والاستيطان.
وكان اول رئيس امريكي يتحدث بصراحة ووضوح عن الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ عام 1967، ويدعو الى انهاء الاحتلال الاسرائيلي ووقف الاستيطان، والى رفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، ويسعى، اقله، نظريا، الى حل قضايا الصراع وبؤر التوتر في المنطقة والعالم. لكن مثل هذه المواقف المعلنة بقيت مجرد مواقف لفظية لا قيمة فعليه لها لانها لم تترافق مع ضغوط جدية على حكومة اليمين في (اسرائيل) من اجل وقف الاستيطان بكافة اشكاله ووقف مصادرة الاراضي. والادارة الاميركية بما تمتلكه من دور كبير في المنطقة وقدرتها في التاثير على الموقف الاسرائيلي بإمكانها، اذا ما ارادت ذلك، ان تمارس ضغوطات جدية على (اسرائيل) من اجل التزامها باستحقاقات التسوية المتوازنة والشاملة.
لكن مواقف الرئيس الامريكي خاصة خطابه الى العالمين العربي والاسلامي في جامعة القاهرة (4/6/2009)، والذي دعا فيه (اسرائيل) الى الوقف الشامل لجميع انشطتها الاستيطانية في الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 والى احترام التزاماتها الدولية بما فيها تلك المنصوص عليها في خطة خارطة الطريق الدولية، بدأت بالتآكل في ظل طروحات أمريكية تدعو العرب إلى اتخاذ خطوات تطبيعية مع (إسرائيل)، ووسط المساومات الأمريكية الإسرائيلية الجارية حول مدة وقف الاستيطان، وليس وقفه بالكامل.. والاهم من ذلك السياسة العربية والفلسطينية الانتظارية، شكلا ومضمونا، لما تريد امريكا ان تفعله، بينما في الجانب الآخر نشطت الدبلوماسية الاسرائيلية في كل مكان وضغطت في كل الاتجاهات لتنجح في اجبار الادارة الامريكية على التراجع عن مواقفها بل والصمت عن السياسات الاستيطانية في الضفة القدس التي تواصلت وبشكل غير مسبوق..
لا نبالغ القول ان سياسة الاستيطان اليهودي في الضفة والقدس وصلت الى مستوى من الخطورة لم تعد المواقف الاحتجاج والادانة كافية لردع (اسرائيل) التي تخطط استراتيجياتها الاستيطانية وهي تدرك ان ما من ردرد فعل فلسطينية جدية ولن تخرج عن اطار التوصيف العام لمخاطر السلام وباعتباره عائقا امام اي تقدم بمفاوضات التسوية
وهذا هو لسان حال الدول العربية ودول الاتحاد الاوروبي، وفي ميدان تهديد ووعيد من قبل مسؤولين في السلطة وفي منظمة التحرير لكن دون ربط ذلك بسياسات وردرد فعل بمستوى ما تتعرض له الارض الفلسطينية، بينما (اسرائيل) تمضي في عملية بناء المستوطنات اول باول اعتمادا على ما قاله رئيس (اسرائيل) الاسبق ديفيد بن غوريون اننا سيطرنا على فلسطين قطعة قطعة وشجرة شجرة..
لم تنتظر (اسرائيل) كثيرا على احتلالها للضفة الغربية حتى بدأت بتطبيق مشروعها الاستيطاني ببناء أول مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية عام 1967 وهي مستوطنة “كفار عتصيون”، جنوبي الضفة الغربية، ما لبثت ان نشرت شبكة مستوطناتتها في الضفة الغربية، وواصلت توسيعها بعد اتفاقات أوسلو. وفي نظرة سريعة على تطور سياسة الاستيطان، يبدو واضحا ان سياسة الاستيطان تعتبر احد اذرع الدولة اليهودية الى جانب الجيش..
ووصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية دون القدس الشرقية عام 1977 إلى حوالي 4 آلاف و400 مستوطن، فيما بلغت أعدادهم عام 1988 إلى نحو 66 ألف و(500) مستوطن.. ومع بدء عملية التسوية اعتقد البعض ان عملية الاستيطان يمكن ان تتوقف، خاصة وان بعض التبريرات التي قدمت لتوقيع اتفاقية اوسلو هي “انقاذ الارض من غول الاستيطان”، لكن على الارض كانت صورة مختلفة حيث استمرت عملية الاستيطان وتسارعت وتيرتها في الاعوام السبعة التي تلت توقيع الاتفاقية ليزدادعدد المستوطنين بأرقام خيالية في الفترة ما بعد العام 2000. وفي عام 2000، وصل عدد المستوطنين إلى 184 الفاً، فيما تزايد أضعافاً خلال السنوات اللاحقة ليصل اليوم الى ما يزيد عن 766 ألف مستوطن يهودي منهم (400 الف) في الضفة الغربية و (360) في القدس الشرقية المحتلة. ويقيم هذا العدد الكبير في 131 مستوطنة اضافة إلى 10 مستوطنات في القدس الشرقية ونحو 115 بؤرة استيطانية تنتشر على تلال الضفة الغربية.
كل هذه المعطيات الرقمية ومخاطرها على القضية الفلسطينية بجميع مكوناتها لا نعتقد انها بخافية على القيادة الرسمية الفلسطينية التي يفترض انها تمتلك ملفا تفصيليا عن سياسة الاستيطان. لكن ما ينبغي التنوية اليه والتحذير منه هو حالة الارتخاء على المستوى الدبلوماسي الفلسطيني، خاصة بعد صدور القرار (2334) الذي على اهميته الكبيرة لكنه بنظر (اسرائيل) والادارة الامريكية لا يساوي الحبر الذي كتب عليه.. خاصة وان الادارة الامريكية التي “تنازلت” عن موقفها بنقل سفارتها الى القدس ليس نزولا عند رغبة بعض الاصدقاء من الفلسطينيين والعرب، بل لاسباب قد تكون اخطر في مضامينها الفعلية من خطوة نقل السفارة..
نطلق مثل هذا التحذير الذي يجب ان يشكل ناقوس خطر بالنسبة لكل من لديه حرص على الحقوق الفلسطينية على خلفية القناعات التي تولدت لدى البعض عن تاثير واهمية القرار رقم (2334) الذي صدر عن مجلس الامن الدولي بتاريخ 23/12/2016 كونه احدث صدمة في (اسرائيل)، خاصة وانه صدر باجماع الدول الاعضاء وامتناع الولايات المتحدة لأول مرة منذ العام 1979، والذي صدر قبل ايام قليلة من مغادرة الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك اوباما البيت الابيض.. غير ان الايام التي تلت منذ تولي الرئيس الامريكي الحالي السلطة اكدت ان هناك الادارة الامريكية مقبلة على سياسة جديدة في التعاطي مع الموضوع الفلسطيني من مدخل موقفها من مسالة الاستيطان..
هذا الاستنتاج مبني على الموقف الامريكي “الجديد” الصادر عن الناطق باسم البيت الابيض حول الاستيطان بتاريخ 3 شباط 2017 والذي تضمن ثلاثة نقاط غاية في الخطورة ويجب التنبه لها:
1) ان الولايات المتحدة تعتبر أن المستوطنات الحالية التي اقامتها (اسرائيل) في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية لا تشكل عقبة امام تحقيق السلام.
2) ترى الولايات المتحدة أن بناء (إسرائيل) مستوطنات جديدة أو توسيعها للمستوطنات القائمة خارج حدودها الحالية قد لا يفيد في تحقيق السلام مع الفلسطينيين . (لاحظ قد)
3) ان ادارة الرئيس ترامب لم تتبن بعد موقفا رسميا بشأن النشاطات الاستيطانية (الحديث هنا عن نشاطات استيطانية وليس عن الاستيطان كسياسة رسمية بالنسبة ل(اسرائيل))، وان الولايات المتحدة تتطلع لمواصلة النقاش مع الاطراف المعنية..
الموقف الامريكي يبدو وكأنه رد اعتبار بالنسبة ل(اسرائيل ويشكل تحديا بالتحدي القرار 2334 لكنه في التطبيق العملي ابعد من رد اعتبار ويشكل اعلانا امريكيا صريحا في تدمير جميع المراهنات العربية والامريكية ، وصياغات الموقف الامريكي الملاحظ انها تقصدت القرار (2334) الذي دعا (إسرائيل) لأن توقف فورا وعلى نحو كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلةبما فيها القدس الشرقية، مؤكدا على أن إنشاء (إسرائيل) للمستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية ويشكل انتهاكا صارخا بموجب القانون الدولي، وبالتالي فان الموقف الامريكي هو ابعد من ضوء اخضر او تغطية وتشجيع على الاستيطان، انها بكل اختصار دعوة صريحة ل(اسرائيل) للبدء في تطبيق مشروعها الفعلي والمعبر عنه تحت عنوان ضم الكتل الاستيطانية حول القدس..
على الجميع ان يدرك حقيقة ان المشكلة التي تواجهنا اليوم كفلسطينيين هي اننا لا نواجه احتلالا عنصريا بغيضا فحسب، بل وايضا نواجه ابعد من الاحتلال والاستيطان اليهودي وهو الضم، وقمة الاستيطان وذروته هو شكل من اشكال الضم.
أن مخطط الضم الذي تعمل (اسرائيل) على فرضه يشتمل على مستوطنة “معاليه أدوميم” وبعض الكتل الاستيطانية ما سيؤدي إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها في اطار الاستراتيجية الاسرائيلية الابعد التي تتلخص بمشروع القدس الكبرى وبما يقضي على كل امكانيات قيام دولة فلسطينية مستقلة بعاصمتها القدس.
ومعروف للجميع ان ضم مستوطنة معاليه أدوميم والكتلة الاستيطانية غوش عتصيون ومستوطنة جفعات زئيف من شأنه ان يقلب الميزان الديمغرافي في المدينة بما يزيد في عدد المستوطنين في شرق القدس نحو 50 ألف مستوطن. كما ان ضم مستوطنتي جفعات زئيف وغوش عتصيون سيرفع عدد المستوطنين الى نحو 100 ألف مستوطن، وبما يرفع عدد المستوطنين إلى 350 ألف مستوطن، وهو رقم يزيد عن تعداد الفلسطينيين في القدس الذي يتراوح بين (200-250) الف فلسطيني..
بلغت مساحة القدس الشرقية عام 1967 نحو 72 كيلومترا مربعا وهي في تزايد مستمر نتيجة سياسات الضم والتوسع الاسرائيلية. ووفقا للمخطط الاسرائيلي، فمن المتوقع ان تبلغ مساحة القدس الكبرى نحو (600) كيلومتر مربع اي ما يوازي نحو 10% من مساحة الضفة الغربية. والمشروع مخصص لاستيعاب نحو مليون يهودي، وقد يتم تدشينه عام 2020 باعلان المدينة عاصمة للشعب اليهودي. وباقامة هذا المشروع تكون (اسرائيل )قد نجحت في الغاء حدود المدينة الدولية وطمست كل ما له علاقة بالقدس الشرقية التي لن تزيد المساحة المخصصة للفلسطينيين عن 10 كيلومترات مربعة لن يزيد عدد الفلسطينيين فيها عن (100) الف فلسطيني موزعين في مناطق معزولة عن بعضها البعض ما يسهل السيطرة عليها..
امام كل هذا، لا يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية بجميع مكوناتها السياسية والحزبية والفصائلية ان تواصل على نفس اسس ومقاييس النضال في صورته التقليدية خاصة في ظل التغييرات التي يشهدها المجتمع الاسرائيلي ونظامه السياسي. فما كنا نتحدث عنه سابقا هو ان ان (اسرائيل) هي جيش بواجهة دولة بينما الوقع الذي امامنا اليوم هو مستوطنون بواجهة دولة، ، بمعنى ان المستوطنين حلوا مكان الدولة. يقابل هذا حكومة يمينية متطرفة يشكل الاستيطان جزءا من عقيدتها وبرنامجها ومدعومة بادارة امريكية متوحشة ايضا. والذي يحصل اليوم هو تلاقي الادراتين المتوحشتين، وما الموقف الامريكي المعبر عنه من الناطق باسم البيت الابيض الا اعلان صريح باطلاق العنان للتوحش الاسرائيلي من خلال الاستيطان والضم..
لم يعد كافيا القول: أن الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية هو استيطان استعماري غير شرعي وغير قانوني وفقا للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وبأنه يشكل جريمة حرب وفقا للمادة الثامنة من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية. فالموقف الامريكي هو تحول خطير في السياسة الأميركية، يجب ان يترك نتائجه على الساسة الفلسطينية القادمة التي لا يمكن ان تستمر بذات الوتيرة السابقة. فبعد قرار حكومة نتنياهو، وفي أسبوع واحد، بناء أكثر من ستة الاف شقة سكنية استيطانية استعمارية، والتلويح ببناء الاف جديدة من هذه الشقق، وفي ظل رعاية سياسية اميركية من البيت الأبيض مباشرة، تكون الأوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة قد دخلت مرحلة لم يعد يجدي معها الاكتفاء بالتحذير أو مجرد التلويح باجراءات، تأخرت القيادة الفلسطينية الرسمية كثيراً عن تنفيذها.
نقطة الانطلاق يجب ان تبدا من ان الاستيطان كان وسيبقى غير شرعي ومرفوض ويتناقض مع القانون الدولي وقرارات مجلس الامن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ، التي أدانت جميعها العمليات والنشاطات الاستيطانية. وبالتالي فان هذا التطور الجديد يعطي قيادة ورئيس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير حق الانتقال من حالة التحذير والمناشدة، إلى المباشرة فوراً في تنفيذ القرارات والاجراءات اللازمة للرد العملي على السياسة الاسرائيلية في اطار الدفاع عن الارض الفلسطينية بمختلف الاشكال النضالية الى سياسة هجومية واستراتيجية نضالية بديلة تعيد الثقة إلى الشارع الفلسطيني وفي مقدمتها:
– اعلان عدم اهلية (اسرائيل) في اي عملية تسوية وبالتالي سحب الاعتراف بها بكل ما يقتضيه ذلك من وقف العمل باتفاقيات اوسلو وملحقاتها المختلفة خاصة وقف التعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال، ومقاطعة الاقتصاد الاسرائيلي، وحماية الحراك الشعبي الفلسطيني وتطويره نحو انتفاضة شعبية شاملة.
– تدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية بنقل ملف الاستيطان إلى مجلس الأمن مرة أخرى ومطالبته بالعمل على تنفيذ ما جاء في قراره 2334، والى المحكمة الجنائية الدولية. والتقدم بطلب العضوية العاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، ومطالبة الأمم المتحدة بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وارضه.
نحن امام مرحلة جديدة بكل ما للكلمة من معنى وعلى سياستنا تتحدد سياسات الآخرين. ما يعني ضرورة المبادرة الى سياسة فلسطينية هجومية تأخذ في اعتبارها كل المتغيرات على المستويين الداخلي باعادة بناء وتطوير نظامنا السياسي بما يمكنه من التقاط اللحظة وتجاوبه ايجابا معها او على المستوى الخارجي باعادة النظر بجميع علاقاتنا سواء مع اسرائيل او مع الخارج.. والاهم من ذلك عدم ترك الميدان لدولة المستوطنين التي ان تترك شيئا للفلسطيني طالما هو غير مكترث لما يحدث..