وائل مصطفى الهرش
تدرجت وتعددت القرارات المتخذة من قبل الامم المتحدة والتي تبحث او تتعلق بموضوع الاستيطان الصهيوني في الارض الفلسطينية وكان من القرارات المتعاقبة 446، 452، 465، 476، 478 وصولا الى القرار الاخير 2334 الصادر في نهاية العام الماضي .
ان موضوع الاستيطان ليس قضية قضم لما تبقى من ارضنا المحتلة وانما كما نراه نحن له ابعاد مختلفة تختلف بحسب الفترات الزمنية وتتطور مع مرور الوقت.
قبل الخوض في تحليلنا هذا سنستعرض العلامات البارزة للاستيطان حيث يقول الدكتور احمد سعد ان الاستيطان قد بدأ قبل تأسيس المنظمة الصهيونية في العام 1897 فاثناء منتصف القرن التاسع عشر ساعد الغربيون في تطوير مستعمرتين زراعيتين في صفد وطبريا وكان يعمل بهما فقط اليهود و في السنوات 1882 – 1884 نظمت جمعية “احباء صهيون” هجرة اليهود وخاصة من روسيا القيصرية الى فلسطين, وقد ارتبطت هذه الهجرة بالاحداث السياسية التي كانت سائدة في روسيا القيصرية وغيرها من بلدان اوروبا الشرقية, اذ ان بداية مرحلة الانتقال من راسمالية المنافسة الحرة الى مرحلة الاحتكار في روسيا القيصرية ورومانيا وبولونيا توجيه ضربة اقتصادية الى صميم البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وتركيز هائل في الانتاج وقوة العمل خاصة في روسيا القيصرية, ورافق هذا التركيز في الانتاج والقوة العاملة في ظل الظلم القيصري ارتفاع موجة الثورية للطبقة العاملة وانتقال المركز الثوري تدريجيا من المانيا وفرنسا الى روسيا القيصرية كما انه على تربة التحول التدريجي نمت اللاسامية في البلدان السابقة الذكر, خاصة بين فئات البرجوازية المتوسطة وقد استغل الحكم القيصري اللاسامية كسلاح لتفريق صفوف الطبقة العاملة وتوجيه النقمة الى العنوان الغير الصحيح اي الى اليهود كما استغلت الاوساط الصهيونية المتمولة من اللاسامية كوسيلة لاخراج اليهود من معترك الصراع الطبقي و السياسي خاصة لابعادها عن الاحزاب الثورية وتوجيه انظارها نحو كما يسمونها “الجنة الموعودة” في فلسطين ولهذا ارتبطت الهجرة الاولى لجمعيات “احباء صهيون” بالاحداث الدامية التي نظمتها الاوساط الرجعية العنصرية اللاسامية وبدعم من الاوساط الحاكمة في روسيا القيصرية ضد اليهود في العام 1881 , صحيح ان الهجرة الاولى لم تؤثر كثيرا على الوضع الديموغرافي والاقتصادي لفلسطين وحتى بعد اعتراف القيصر ب “احباء صهيون” عندها هاجر بضعة الاف واغلبهم من التجار, ولكن كان لها علامات وانذارات مهمة حيث يذكر “اليكس بيين” في مؤلفه “تاريخ الاستيطان الصهيوني” ان روتشيلد ارسل المختصين لتعليم المستوطينين زراعة العنب وعين الموظفين لادارة المستوطنات وانه في الفترة من 1882 الى 1899 وظف البارون روتشيلد في مشروع الاستيطان في فلسطين مبلغ 5.6 مليون جينيه استرليني ومنظمة احباء صهيون وظفت مبلغ 87 الف جينيه فلسطيني .
ومن هنا ستبدأ دراستنا والتي من خلالها نكتشف ان قرارات الامم المتحدة صاخبة ولكن لا تضرب المرتكزات الاساسية للاستيطان فاننا نرى ان الحركة الاستيطانية مرت بمراحل تطورية تاريخية تصب جميعها في هدف واحد وهو بناء دولة على ارضنا, فمن الاستيطان الاقتصادي الى الاستيطان الديني والروحي وكلا الاخيرين هما من قاعدة بناء الدولة الصهيونية الى الشكل الاخير او المرحلة الاخيرة في العملية الاستيطانية وهي الانهاء الكامل للوجود الفلسطيني حتى على اراضي 1967 .
الاستيطان الاقتصادي :
اتخذ راسمال الاجنبي الى فلسطين الى القطاع اليهودي بعض الملامح والاشكال الجديدة التي تختلف في مظاهرها وبعض اشكالها عن الطابع الكلاسيكي لاشكال تصدير راس المال في المرحلة الامبريالية الى المستعمرات و غير المستعمرات, ففي مؤلف لينين الشهير “الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية ” يحدد اهم اشكال تصدير راس المال الذي اعتبره احد خصائص المرحلة الامبريالية, ومن اهم الاشكال الكلاسيكية تصدير راس المال الخاص الاحتكاري للاستثمار في البلدان المستعمرة وضعيفة التطور . ولكن اشكال تصدير راس المال الى فلسطين تفصح عن مضمونها وخصوصيتها حيث يكمن التميز في هذا التصدير قي ثلاث امور : الاولى انه ارتبط منذ البداية بالمشروع الصهيوني والهجرة اليهودية الى فلسطين.
الثانية: انه ارتبط بحبال العلاقة العضوية المصلحية التي نشأت وتطورت بين الانظمة الامبريالية والمنظمة الصهيونية العالمية وذلك في خضم الصراع الامبريالي لفرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية على البلدان والمواقع الاستراتيجية الهامة اقتصاديا وتجاريا وسياسيا وعسكريا .
اما الميزة الثالثة : انه جاءت كاداة لتحقيق المخطط الصهيوني والذي يعطي الاهمية القصوى للسيطرة على اخصب الاراضي الزراعية وطرد العرب منها في هذا البلد الزراعي, كما استهدف القطاعات الاكثر ربحية والتي تحقق الامان بالنسبة لوجود المستوطنين فبدعم من الانتداب البريطاني زادت السيطرة الصهيونية على الصناعة الاستهلاكية وذلك لتغطية حاجة المستوطنات من السلع الاستهلاكية اولا وثانيا من العمل, كما عملت بريطانيا بوقتها ضربات اقتصادية قمعية لفلسطين عبر افشال اي محاولة للتطور الانتاجي وذلك بفرض عراقيل مثل وضع الحواجز الجمركية و زيادة الضرائب على الاستيراد والتصدير الفلسطيني , هذه الامور كلها عوامل تساعد الحركة الصهيونية في السيطرة على المصانع ومن ابرزها المصانع المختصة بمنتجات العنب والتي كانت وقتها تعتبر الشريان الاقتصادي الابرز لفلسطين, فبهذه العملية اتاحت فرص العمل للصهاينة وابعدت السكان الاصليين اضافة الى ربط السوق المحلية مع السوق الاجنبية عبر البوابة الصهيونية المتمثلة بالمعامل والمصانع التي سيطروا عليها .
ومن مراجعتنا لقرارات الامم المتحدة من منظورنا كاقتصاديين لم نجد ما يمنع هذه الجرائم الاقتصادية والتي هي الداعم الاكبر لنشوء دولة الاحتلال, لا بل غفل الجميع عن هذه العمليات الى ان استفحلت واستحال ايقافها .
اما الركيزة الثانية للاستيطان وهي الاستيطان الديني والروحي :
اكتسبت هذه المرحلة اهميتها بعد الاستيطان الاقتصادي فمنذ المؤتمر الصهيوني الاول برز خلاف بين قادة المنظمة الصهيوينة , وتمحور الخلاف حول التاكتيك الذي يجب على المنظمة الصهيونية اتباعه لتنفيذ مشروعهم في سبيل تدعيم وجودهم بفلسطين, فتشكل تيارين احدهما سمي بتيار الصهيونية السياسية والذي يرى اهمية كسب تاييد الدول الامبريالية, اما التيار الثاني هو الصهيونية العملية فلم يعطي الاهمية لتاييد الدول الامبريالية بقدر الاهمية التي يجب ان تلقى لخلق وقائع على الساحة العملية وحتى قبل اخذ الفرمان السياسي من الانظمة الامبريالية الاساسية.
فقبلوا تيار الصهيونية السياسية باقتراح بريطانيا باستعمار اوغندا والحصول على التشريع الدولي لانجاز هذه العملية, واعتبروها انها الملجأ الليلي قبل الوصول الى فلسطين, في حين ان الصهيونية العملية طالبت باحتلال فلسطين مباشرة انطلاقا من ان ربط اليهود طوباويا بأرض الميعاد كما يزعمون سيكون افضل وسيلة لجذب اليهود للهجرة والاستيطان , في الواقع ان الخلاف بين الصهيونية العملية والصهيونية السياسية لم يستمر طويلا خاصة وانه خلاف يتمحور ليس على الايديولوجية الصهيونية او الاستراتيجية الصهيونية ,وانما يتمحور كما رأينا على اسلوب التنفيذ وادت تطورات الحرب العالمية الاولى ووعد بلفور الى حسم هذه الخلافات ولهذا سريعا ما اندمج الصهيونيون العمليون في اطار المنظمة الصهيونية, خاصة بعد التخلي عن برنامج اوغندا وبعد ان احتضنت الامبريالية البريطانية المشروع الصهيوني وسخرته لخدمة مصالحها الاستعمارية.
ومن هنا بدأت الهجمة الشرسة على تهويد القدس وفق مخطط نعتقد بأنه مرسوم وفق خطط زمنية متعاقبة و يذكر روحي الخطيب “أمين القدس” إن تهويد مدينة القدس وتغيير بنيتها السكانية يمكن أن يكون قد تم في إطار أربع مراحل هي:
المرحلة الأولى: 1907 – 1917 المرحلة الثانية: 1918 – 1948 المرحلة الثالثة: 1948- 1967 المرحلة الرابعة: 1967 – 1981
والمرحلة الرابعة لازلت مستمرة حتى الان وهي المرحلة الاعنف والتي يتركن بها الوجود الروحي الذي يريد الصهاينة ان يصلوا له لكي يعتبر كل يهودي في العالم ان موطنه هو فلسطين المحتلة بمسماهم اسرائيل.
وتشير الحقائق على الأرض إلى نجاح التهويد العمراني والديمغرافي، مما يشكل خطراً على الوجود العربي فيها، حيث تشير الإحصاءات والدراسات إلى أن ما بقي من القدس الشرقية خارج دائرة التهويد يصل إلى 21% فقط، والخطوة الاهم انه تم الاستيلاء على حائط المسجد الأقصى الجنوبي الغربي (حائط البراق) بطول 47 متراً وارتفاع 17 متراً ليكون مكاناً يصلي فيه اليهود حسب طقوسهم الدينية المزعومة وليطلق عليه زوراً “حائط المبكى” وهذا ايضا من اهم عوامل الجذب لتشجيع الهجرة والاستيطان.
كما تم تعديل التركيبة السكانية للمدينة لتصل إلى حد المساواة بين العرب واليهود فيها , ناهيك عن تغيير المعالم والهدم والطرد المستمر للسكان العرب في محاولة لإضعاف الموقف العربي إزاءها.و من جهة أخرى يحاول اليهود حصر حق المسلمين فيها بالحرم الشريف وحق المسيحيين بكنيسة القيامة، ولذلك اتجهت الحلول البديلة الإسرائيلية المقترحة لمستقبل المدينة عن طريق تقديم الحل الديني أو الوظيفي الإثني هذا ما يضمن السيطرة الكاملة للمدينة ان اتبع هذا الاسلوب ولا نرجح اللجوء اليه .
ان هذه التغيرات لا تعني فقط السيطرة الثقافية على المدينة بل السيطرة المكانية وطرد العرب واقتلاع جذورهم من ارضهم فنذكر مذكرات وايزمان وهو اول رئيس وزراء لدولة الاحتلال والذي قال فيها : لقد اتفقت مع الحكومة البريطانية التي تبنت الحركة الصهيونية على تسليم فلسطين لليهود خالية من سكانها العرب ولقد كان مقررا لذلك الاتفاق ان يتحقق عام 1934 لولا ان ثورات قام بها عرب فلسطين اعاقت ذلك .
وفي هذا الواقع المأساوي المتعلق بفلسطين وبعاصمتها الابدية القدس وبالوجود الحضاري والثقافي للعرب وحتى الوجود بكل معانيه في هذه المنطقة المقدسة عملت الامم المتحدة على اصدار القرارات المتعلقة في القدس ولكن نحن نرى بان هذه القرارات اتصفت بالرعونة سوا القرار الصادر في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 465 الذي طالب بتفكيك هذه المستوطنات اما باقي القرارات كانت مليئة بعبارات التنديد والسخط ولكن لم تتطور اكثر من ان تكون حبرا على ورق, وفي الواقع علموا قادة الحركة الصهيونية بهامشية هذه القرارات والاتفاقيات الدولية فكتب موشيه دايان وهو عضو للكنيست لثلاث دورات مذكرة سرية في عام 1968, قال فيها “توطين الإسرائيليين في الأراضي كما هو معروف يتعارض مع الاتفاقيات الدولية، ولكن ليس هناك شيء جديد عن ذلك.”.