هشام نفاع
**الجائزة للمستوطن
بئيري المختص في السيطرة على أرض الفلسطينيين، بشتى الوسائل الملتوية، وبتعصّب قومجي يلغي الفلسطيني كوجود وكمجموع، ومن تم تصويره عام 2010 وهو يدهس اطفالا فلسطينيين في سلوان بينما كان يتم رشق سيارته بالحجارة، استحق “جائزة اسرائيل”. وهو لم يزرع السعادة في قلب المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 فقط. فقد انضمّ إلى طابور التبريكات زعيم “المعسكر الصهيوني” المعارض: عضو الكنيست هيرتسوغ. وهذا ما كتبه في تغريدة تهنئة عبر موقع “تويتر”: بئيري هو “كاشف أسرار القدس”. وقد ردّ الكاتب غدعون ليفي على تخصيص الجائزة للمذكور: “لأول مرة في تاريخ الدولة تقرر منح التقدير الأكبر والأسمى للاحتلال. لم يسبق للدولة أن فعلت ذلك، لا سيما بهذا الشكل الفظ، بدون أي خجل وتردد أو غموض. الجائزة ستمنح للمحتل ومتعاونيه”
**براءة الوزير!
الجائزة في مجال الرسم ألغيت هذا العام. الوزير اليميني الذي يتزعّم حزب المستوطنين المركزي (“البيت اليهودي”) تمكّن من التنصّل السلس من الضلوع السياسي في القرار المخوّل باتخاذه، وبكثير من الرسمية. تجلّى هذا الأمر في التعقيب المقتضب الذي أطلقه بكلمات ملفوفة بغلاف منسوج من البراءة ومربوطة بخيوط العفوية: “الوزير بينيت لم يكن ضالعًا في أية مرحلة من مراحل سيرورة عمل اللجنة. وحين تم إبلاغه بانعدام الاتفاق في اللجنة، تصرف وفقًا لما تحدده الأنظمة المعمول بها”. إن متابعي تفاصيل الصراعات الحزبية والايديولوجية الإسرائيلية سيتمكنون ربما من ملاحظة ابتسامة عريضة وشامتة مخبأة في فراغات ما بين كلمات هذا التعقيب الذي ينضح بما يفوق ما سيصدر عن قاضٍ من حيث الحياد والموضوعية.
مرة أخرى ثارت زوبعة قصيرة الأمد، ولكن عميقة الجذور، حول اختيار الفائزين بـ”جائزة إسرائيل”. هذه المرة كان في مركز الأسهم والتجاذبات السياسية والإعلامية رسّام ارتكب خطيئة المشاركة في اجتماع عام ضد جناح اليمين، وقول جملة واحدة إشكاليّة، فعلا، لم تحسم مصير استحقاقه الجائزة فحسب، بل هناك من يقدّر أنه كان لها تأثير جدّي في تحديد نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. وهذا ليس لقوّة القول وبلاغته، بل لشدة الصدى الذي اهتمّ أصحاب المصالح السياسية بجعله يتردّد دون توقّف وفي سياق محدد: فنّان يساري من تل أبيب هاجم الطوائف الشرقية اليهودية في بطن التديّن الرخوة.
تعرّف الموسوعة الحرّة (ويكيبيديا) “جائزة إسرائيل” على أنها “جائزة مرموقة تمنحها دولة إسرائيل في تشكيلة واسعة من المجالات. ويتم تقديمها لمستحقيها غداة يوم الاستقلال في أورشليم خلال حفل رسمي بمشاركة زعماء الدولة، لكن أسماء الفائزين تُعلن قبل ذلك الحين بشهور. بدأ إعطاء الجائزة عام 1953 بمبادرة وزير التربية والتعليم آنذاك”. وينسب الرسميون الإسرائيليون قيمة خاصة لموعد تقديم الجائزة لأنه “يشدد على العلاقة الداخلية العضوية بين الاستقلال السياسي والاستقلال الروحي”.
إذن القصة المناوبة لهذا العام كالتالي: شارك الرسام المعروف في إسرائيل يائير غاربوز في عشيّة الانتخابات عام 2015 في اجتماع ذي طابع انتخابي، بوصفه “شخصية يسارية مخضرمة، وكاتبًا ورسامًا لم يخف آراءه السياسية في أية مرحلة”، كما وصفته صحيفة “يديعوت أحرونوت”. وقد ألقى خطابًا أراد فيه مهاجمة شريحة معينة من مؤيدي اليمين في إسرائيل، لكن صياغة بعض جمله تركت مجالا لتأويله، خصوصًا لدى أصحاب المآرب والمصالح، كمن يوجّه نقده لجمهور المتديّنين اليهود، والشرقيين منهم خصوصًا. كانت الجملة القاصمة تلك التي انتقد فيها “مقبّلي الحُجب والتمائم والراكعين على مزارات القدّيسين”.
“الخطاب الذي ألقاه غاربوز نجح بجعل معسكره نفسه أيضًا (“اليسار الصهيوني” – الكاتب) يقوم عليه، وهو يُعتبر أحد الأحداث التي أثرت على معركة الانتخابات الأخيرة وأحد العوامل في هزيمة اليسار الكبرى”، كما كتبت “يديعوت أحرونوت”.
**يمين يلعب على وجع مستضعفين
بعد نحو سنتين على حادثة الخطاب رشّح غاربوز من رشّحه لنيل “الجائزة” لكن كان هناك من لم ينسَ. ليس المقصود هنا مَن لم ينسَ الإهانة، وهناك بالتأكيد مَن شعر بها، وهو حقٌ مطلق لمن هم هكذا فعلا؛ بل المقصود أولئك الذين اختاروا التذكّر والتذكير ممّن أتقنوا المتاجرة بتلك السلعة الثمينة: رسام من تل أبيب النخبوية الليبرالية يهاجم شريحة مواطنين متينة الملامح المشتركة لهويتها، وتشكل جزءًا أساسيًا في الطبقة المسحوقة التي تعرضت للقمع من قبل النخب اليهودية البيضاء، على مرّ عقود منذ إقامة دولة إسرائيل. إنها الشريحة التي عرف زعيم “الليكود” التاريخي مناحيم بيغن كيفية اللعب بنجاح على وتر مشاعرها الحقيقية بالألم والحرمان والتمييز، وتوجيهها بدهاء واستعلاء نحو خندقه السياسي؛ خندق الخصم التاريخي لمن حكم إسرائيل حتى أواخر السبعينيات، أي ما يُعرف بـ “حركة العمل”. وهكذا، فمنذ 1977 ستتحوّل تلك الشرائح إلى مخزون اليمين الانتخابي الأساس، وضحيّته الأساس أيضًا. ربما يصحّ القول في هذا الباب: مثلما في حالة العديد من المجتمعات المعاصرة حيث يلعب اليمين بكل لؤم على وجع المستضعفين، فيؤلّبهم على أساس مشاعر الخوف ثم العداء، ليس لانتشالهم من أسفل السلّم الاجتماعي-الاقتصادي، بل كي يجعلهم سلّمه للأعلى، للسلطة.
تقول “يديعوت أحرونوت”: “بعد سنتين على خطاب غاربوز المشار إليه، يدفع الرسام الثمن – ومع الفائدة أيضًا. لقد علمنا أن وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت منع مؤخرًا مقترح منح جائزة إسرائيل ليائير غاربوز”. ونقلت عن الرسام ردًا فوريًا أوليًا عبّر فيه عن “سعادته بعدم تلقي الجائزة” من هذا الوزير. ولاحقًا سيقول الرسّام: “لم يمنع بينيت منحي الجائزة بل إن اللجنة المفوضة لم تتوصل إلى موقف بالإجماع. الأكاذيب بشأن الخطاب متواصلة. هل سأواصل الانشغال بكذبتهم التي قرروا اعتمادًا عليها تقديمي قربانًا من أجل ناخبيهم؟”.
المفارقة التعسة أنه حين كان يسعى الى عدم وصمه بالفشل المؤسَّس على خطابه الأكثر تعاسة، فقد غسل بذلك يدي الوزير اليميني بماء التبرئة من الملاحقة السياسية، وهو ضحيّتها، بل “قربانها” على حد تعبيره.
لم يسُد من الناحية التقنيّة إجماع في اللجنة المخولة بشأن إقرار صاحب الجائزة لهذا العام، 2017. لم يتم التصويت المطلق لصالح غاربوز. في مثل هذه الحالات، وفقًا للمعمول به من أنظمة، تنتقل الخيوط إلى يد وزير التعليم لكي يقرّر الخطوة التالية. ولديه صلاحية كاملة بتشكيل لجنة إضافية لكي تتخذ القرار. ولكنه يملك بديلا ثانيًا أيضًا: إلغاء منح الجائزة في مجال معيّن، وهو بالضبط ما سارع بينيت إلى القيام به: لا توجد هذا العام جائزة في مجال الرسم. نقطة. كان هذا مفاد القرار. وهو ما مكّن الوزير اليميني الذي يتزعّم حزب المستوطنين المركزي (“البيت اليهودي”) من التنصّل السلس من الضلوع السياسي في القرار المخوّل باتخاذه، وبكثير من الرسمية.
تجلّى هذا الأمر في التعقيب المقتضب الذي أطلقه بكلمات ملفوفة بغلاف منسوج من البراءة ومربوطة بخيوط العفوية: “الوزير بينيت لم يكن ضالعًا في أية مرحلة من مراحل سيرورة عمل اللجنة. وحين تم إبلاغه بانعدام الاتفاق في اللجنة، تصرف وفقًا لما تحدده الأنظمة المعمول بها”. إن متابعي تفاصيل الصراعات الحزبية والايديولوجية الإسرائيلية سيتمكنون ربما من ملاحظة ابتسامة عريضة وشامتة مخبأة في فراغات ما بين كلمات هذا التعقيب الذي ينضح بما يفوق ما سيصدر عن قاضٍ من حيث الحياد والموضوعية.
وهكذا بدأت احتفالات اليمين بمختلف منظماته وحلقاته بالقرار. كان في صلبه إعلان الشعور بتحقيق انتصار جديد على “النخب القديمة”، تلك التي استخدمها “معلّم” بينيت السابق، بنيامين نتنياهو، لكي يصل الحكم ويعود اليه ويتمترس فيه.
**”معارضة” مدمنة على منافقة “الإجماع”
أما من جهة القوى التي تسمي نفسها معارضة لسلطة اليمين الحاكم الحالية، فقد تم كالعادة اختيار العمل وفقًا لمنهج النفاق والتلوّن. وعضوة الكنيست عن حزب “المعسكر الصهيوني” المعارض شيلي يحيموفيتش هي مثال واضح وقوي على ذلك، فقد سارعت إلى منافقة الإجماع القومي معبّرة عن دعمها قرار الوزير بينيت. وقالت في حديث إذاعي لراديو الجيش: “كنت سأتخذ القرار نفسه لو كنت مكانه”. ولم تكتفِ بهذا التذيّل بل راحت تزايد أيضًا: “ليس فقط انني أتفق معه بل أعتقد أن أي قرار آخر لو اتخذه سيكون فظيعًا. وأصلا، مجرد موافقة اللجنة على بحث ترشيح غاربوز يدل على انقطاع عن المجتمع الإسرائيلي”.
بالطبع، لا تخطئ الأذن المصغية ترددات الطبقات العميقة لصوت محاباة “الإجماع القومي” في حديث هذه السياسية التي قدّمت الدليل تلو الدليل على أنها بريئة من تهمة “اليسار” حتى بمفهومه الإسرائيلي الإصطناعي (يُذكر لها الامتناع عن طرح قضية التسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني، حفاظًا على الناخبين!). وقد كان لمثل هذه المواقف مساهمة كبيرة وربما “الفضل الأكبر” في السقوط المتكرر والهزيمة المستمرة للحزب بل المعسكر الذي تمثله يحيموفيتش وصحبها وهو يزعم انه يشكل بديلاً. وبدلا من انتقاد الرسّام غاربوز، وبحدّة، على كيل الاتهامات إلى المستضعفين بالمسؤولية عن الوضع القائم، وليس إدانة من يتاجرون بالمستضعفين وبضائقتهم والظلم التاريخي والراهن، الحقيقي، الذي مورس ضدهم، تختار هذه الأصوات الزاعمة تقديم البديل السياسي أن تنضم إلى السلطة، عمليًا، في ملاحقة فنان أو كاتب. وهكذا تتبرع لخصمها، بحماقة أدمنت عليها، بكتف لحمل عرشه القائم عى إعادة إنتاج الخوف وبث الكراهية وتعميق التقسيم واستعداء المجموعات والمجتمعات وتأليبها على بعضها البعض، أخذًا بتكتيكات الاستعمار الدقيقة وموروثه المفصّل، الذي يمارَس في إسرائيل حتى اليوم ضد طوائف يهودية أيضًا، بالإضافة إلى ممارسته “الكلاسيكية” ضد العرب الفلسطينيين، في شتى مواقع تواجدهم.
**هواجس من ثلاثينيات أوروبا
لكن كانت هناك تعقيبات رافضة للملاحقة، وإن كانت قليلة أو لم تحظَ بمساحة إعلامية رحبة. مثلا، رئيس منظمة الكتّاب تسفيكا نير قال مستنكرًا التدخّل السياسي لوزير التربية والتعليم في منح الجائزة: “إن السلطة في دولة إسرائيل تشجّع ثقافة الإسكات وتقوم بملاحقة المثقفين. بل يسود شعور أحيانًا بأن السلطة تشجع على دفع الفنانين، المفكرين والمثقفين إلى الهجرة من البلاد”.
هذا الردّ الحادّ الذي يتهم السلطة الحاكمة في إسرائيل 2017 بالعمل والدفع نحو ما يشبه ترانسفير طوعي للمثقفين أصحاب الآراء المخالفة “للمطلوب والمفروض”، فاقه التحليل المواجِه الذي قدّمه د. دافيد غورفيتش، الباحث والمحاضر في الثقافة والإعلام في المركز الأكاديمي متعدد المجالات في مدينة هرتسليا. وقد تحدث لصحيفة “معاريف” ردًا على سؤال الصحيفة بشأن السبب في امتناع كثيرين من الفنانين والمثقفين، الذين اتصلتْ بهم وتوجهت إليهم، عن التعقيب وإبداء الرأي حول ما تعرّض له يئير غاربوز.
“لست معنيًا/ة بالتعقيب”- كان الردّ السائد للمذكورين وفقًا للصحيفة. وعنه يقول غورفيتش: “الفنانون يخافون من التحدّث والتصريح، لأنهم يرغبون في البقاء قريبين من أبواب السلطة علّهم ينالون فتات الجوائز الذي قد تتكرم به عليهم. هؤلاء التعساء يظنون أن الوزير بينيت سيرمي لهم شيئًا، وليس لأنصاره. إنهم يخنعون لسلطة الخوف التي تعمل على الرقابة الذاتية لدى أصحابها. إنهم مصابون بالخوف وبالتالي فنحن نصطدم بانعدام الرغبة لديهم في الحديث والتعقيب، لكي يغوصوا أكثر وأعمق في ثقافة الترف والمتع التل أبيبية”.
يراجع تقرير للصحيفة المذكورة حالات عديد من الفنانين والمثقفين الذين تعرضوا للملاحقات وأحيانًا إلى الاعتداءات لأنهم قالوا ما لا تستسيغه آذان السلطة.
فالكاتب والفنان يونتان غيفن هوجم داخل بيته من قبل شخص، مجهول الهوية، وقد كال الضربات للكاتب على وجهه وسط الصراخ عليه: “أيها اليساري الخائن”.
الممثلة البارزة غيلا الماغور كانت قد خرجت بصوت نقدي احتجاجي واضح ضد جريمة قتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير حرقًا في فعل دموي بشع اقترفته زمرة من العنصريين الدمويين اليهود. “لقد تحوّلت إلى عدوّة الشعب” قالت مستوحية الوصف من قواميس ممارسات أنظمة الاستبداد في ملاحقة المعارضين والتحريض عليهم حتى الموت أحيانًا. بل قدّمت وصفًا لما يحدث في الشارع: لماذا يجب أن أستقلّ سيارة أجرة وأتعرّض للبصاق وزعيق “يسارية قذرة” يطلقه أزعر يملأ جسده بالوشوم ويطلق على نفسه إسم “الظلّ”؟ (وهو مغن يميني تحوّل إلى أبرز نجوم العنصرية بعد أن قاد اعتداءات وحملات تحريض على مظاهرات معارضة لعرب ويساريين، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في صيف 2014 – الكاتب). “إنه يتجوّل مع زمرته في ساحة مسرح “هبيما” مع سلاسل حديدية بحثًا عن يساريين، مثلما كانوا يبحثون في ألمانيا عن يهود، ولا يخرج أحد ضد هذا”، تقول الممثلة.
استعادة الأجواء الفاشية والنازية لوصف ما يجري في إسرائيل الراهنة من ملاحقة للمعارضين، هو موقف يشاركها فيه الباحث غورفيتش. ووفقًا لوصفه: “إن ما يجري اليوم يذكر بالفاشية خلال ثلاثينيات القرن الفائت، ويتوافق مع ما قاله يائير غولان، نائب رئيس هيئة أركان الجيش. ففي ألمانيا أيضًا تكرر موتيف خيانة المثقفين، غاربوز ورفاقه، وكل من لا يشارك في المناعة القومية. إن هذا السلوك نابع من اليأس وليس من القوّة. وحين تكمّ الأفواه وتسكت الأصوات، فهذا دلالة على ضعف السلطة الراهنة، التي فقدت الأمل بأن تكون سلطة أو حكومة للجميع تتيح التعبير عن الرأي والحوار بحريّة”.
الباحث نفسه يحذّر من الحاصل والآتي: “يجب على الناس أن يخشوا على سلامتهم. فالتطهير هو ما يميّز الأنظمة الظلامية. والهواجس سيئة للأسف وهي تقود إلى الشعور بأن الدولة ديمقراطية على نحو افتراضي فقط. ومن يدفع الثمن هم من يُعتبرون يساريين، وخونة، وطاعني السكاكين في ظهر الأمّة. إن الفكر السائد اليوم مفاده أن من تهمه حصانة الدولة يجب ألا يتكلم مثلما يتكلم غاربوز. هؤلاء لا مكان لهم هنا”.
غورفيتش يستحضر الوضع في الولايات المتحدة ويحاجج بأن فيها مساحة حرية تعبير كبيرة جدا: “صحيح أن الرئيس (دونالد) ترامب يحاول كم الأفواه، وهو ينجح إلى حد ما، ولكن تقف أمامه قوة معارضة كبيرة. ولكن لدينا، من سيدافع عن غاربوز؟ إن الفنانين هنا غير قادرين على التحرّك. يجب أن يوضع حد لسلطة ونظام الخوف”.
**في المقابل: جائزة لمهندس توسّع واستيطان!
لتحديد سياق وربما “إحداثيات” قصّة ملاحقة الرسام يائير غاربوز في خارطة السياسة الإسرائيلية السائدة اليوم، من المفيد النظر إلى التكريم الرفيع لواحد من كبار مهندسي مشاريع الاستيطان الاستراتيجية، والرؤى التوسعية عمومًا التي تسعى لدحر الفلسطيني وإبعاده عن أكثر ما يمكن من أرض.
دافيد بئيري، مستوطن قاد ما يسمى ترميم “مدينة داود” في حي سلوان الفلسطيني في القدس الشرقية المحتلة. الوزير بينيت الذي اغتال بهدوء منح “جائزة إسرائيل” لغاربوز، عبّر بكلمات شديدة الدفء عن سعادته بمنحها لهذا المستوطن من العيار الثقيل. وقال بينيت: “إن عام الذكرى الخمسين لتوحيد القدس هو فرصة رائعة لتكريم دافيد ’دافيداليه’ (وهذا إسم الدلع! – الكاتب) بئيري، أحد أعظم بناة القدس في العصر الحديث. منذ عدة سنوات، حاربنا، صلينا وحلمنا بالعودة إلى المدينة التي سكنها الملك داود، وبإعادة اعمارها. دافيد حوّل هذا الحلم إلى عمل”.
بئيري المختص في السيطرة على أرض الفلسطينيين، بشتى الوسائل الملتوية، وبتعصّب قومجي يلغي الفلسطيني كوجود وكمجموع، ومن تم تصويره عام 2010 وهو يدهس اطفالا فلسطينيين في سلوان بينما كان يتم رشق سيارته بالحجارة، لم يزرع السعادة في قلب المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 فقط. فقد انضمّ إلى طابور التبريكات زعيم “المعسكر الصهيوني” المعارض (الذي يطرح نفسه بديلا): عضو الكنيست إسحاق هيرتسوغ. وهذا ما كتبه في تغريدة تهنئة عبر موقع “تويتر”: بئيري هو “كاشف أسرار القدس”. وقد ردّ الكاتب غدعون ليفي على تخصيص الجائزة للمذكور: “لأول مرة في تاريخ الدولة تقرر منح التقدير الأكبر والأسمى للاحتلال. لم يسبق للدولة أن فعلت ذلك، لا سيما بهذا الشكل الفظ، بدون أي خجل وتردد أو غموض. الجائزة ستمنح للمحتل ومتعاونيه”.
وعن نشاط هذا المستوطن قال ليفي: “في دولة سليمة كان من المفروض أن يكون مكان دافيد بئيري في المحكمة. تاريخ الجمعية التي أقامها- “إلعاد”- مليء بالخداع الاستيطاني. التقاء لشركات وهمية ومتعاونين ووثائق مزورة وابتزازات تحت التهديد ورشوة وركضا وراء المال، اضافة إلى شركات الحراسة العنيفة والمليشيات التي تزرع الرعب والارهاب. هذا العفن يفوز الآن بالجائزة، وهدف بئيري غير الاخلاقي يبرر كل الوسائل. وتحت غطاء الآثار والحفاظ على جودة الطبيعة والسياحة، فان هدفه الشفاف والحقير هو التهويد. وبكلمات اخرى التطهير العرقي والترحيل في القدس. والجهاز القضائي صادق ودولة إسرائيل تعاونت، والآن هي تؤدي التحية. لمن تؤدي التحية، أيتها الدولة؟ لمن قام بطرد آلاف السكان من منازلهم ونغص حياتهم، لمن حول قرية فلسطينية إلى موقع سياحي يهودي؟”. وبسخرية غاضبة ومرّة يختتم الكاتب: إن صانع الترانسفير هو “مكتشف أسرار القدس” وهيرتسوغ هو “مكتشف أسرار إسرائيل”: كلها جمعية إلعاد.
**برنامج تخويف شبه أوتوماتيكي
هناك شيء عفن، ليس في حكومة إسرائيل فقط، وإنما في مجتمعها أيضًا. هناك مجتمع مجرور من أنفه خلف سياسة تنهكه وتقتل أبناءه في ميادين “الأمن” (اللاأمن”) المقدّس بوثنية مشتقة من عصور غابرة مضت. لم يعد الفلسطيني أو اليساري غير الصهيوني وحده من يحذّر من تنامي الفاشية الإسرائيلية الحديثة. بل بات بالإمكان قراءة تحذيرات مشابهة على صفحات الصحف العبرية المهيمنة، ونسمعها هنا وهناك ممن يعرّفون أنفسهم كصهاينة. هناك رابط متين بين اتساع الشرائح المؤيدة للسياسات العنيفة التي تنتهجها الحكومات ضد الفلسطينيين والعرب عمومًا، وبين الانحدار العنصري المتسارع بدرجات خطيرة. في الحالتين يوافق المجتمع الإسرائيلي على صياغة أفكاره بل ومشاعره وفقًا لبرنامج تخويف شبه أوتوماتيكي تشغّله المؤسسة الحاكمة متى شاءت، أيضًا، لخدمة مصالح الطبقة السياسية- الاقتصادية- الاعلامية المسيطرة. منسوب النقد والتفكير النقدي والمختلف في أحطّ درجاته. واتخاذ المواقف بناء على الغرائز الواطئة بدلا من إعمال العقل، بات سمة عامة وعلامة فارقة وماركة مسجلة لهذا المجتمع.
صورة قاتمة. المخرج كان ولا يزال يبدأ بفرض تسوية سياسية على هذه المؤسسة منفلتة السياسات والعنان. فالمعطيات المذكورة تشير إلى جهة الحاجة في العلاج بالصدمات. فلا يمكن التعويل على التعاطي بعقلانية مع غير العقلانيين المزكومين بالاستعلاء. (بالتنسيق مع “المشهد الاسرائيلي”)