تحلّ اليوم الأحد الثامن من أكتوبر؛ الذكرى الـ 27 لمجزرة الأقصى الأولى، ولعلّ كثرة المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وكثافة الاعتداءات على المسجد الأقصى، قد تنسينا ولو لبرهة بشاعة وهوْل هذه المجزرة وتفاصيلها، إذ أنها كانت الأكثر دموية.
صبيحة الـ 08 من تشرين أول/ أكتوبر 1990، لم يكن يومًا عاديًا، فقد استفاق الفلسطينيون على أصوات الرصاص والقنابل ومكبرات الصوت التي صدحت من المساجد في دعوة لحماية المسجد الأقصى المبارك.
وكان آلاف المقدسيون قد توجهوا إلى المسجد الأقصى، بعد إعلان جماعة “أمناء الهيكل” المتطرفة نيتها اقتحام الأقصى، وحينها لم تمنع قوات الاحتلال المصلين من دخول المسجد، كعادتها.
ففي ذلك العام وقبيل احتفال اليهود بـ “عيد العرش”، قررت ما تسمى “جماعة أمناء الهيكل” تنظيم مسيرة للمسجد الأقصى بنيّة وضع حجر الأساس “للهيكل الثالث”، وتوجه مؤسس الجماعة حينها “غرشون سلمون” برسائل عبر وسائل الإعلام لحث اليهود على الانضمام للمسيرة، قائلًا إن “الاحتلال العربي الإسلامي لمنطقة المعبد يجب أن ينتهي وعلى اليهود تجديد علاقاتهم العميقة بالمنطقة المقدسة”.
وفي محاولة للتصدي للاعتداء، اعتكف آلاف المصلين داخل مصليات الأقصى وباحاته، وفور اقتحام المستوطنين المشاركين في المسيرة، هبّ المعتكفون لمنعهم من تنفيذ مخططهم.
قوات الاحتلال الإسرائيلي من جانبها، أطلقت العنان لأسلحتها واستخدمت قنابل الغاز السام والأسلحة الأوتوماتيكية والطائرات العسكرية، كما شارك المستوطنون بإطلاق الرصاص الحي تجاه المصلين في “مجزرة الأقصى”، التي أسفرت عن استشهاد 21 شابًا وإصابة المئات بجروح متفاوتة.
ويروي شهود عيان أن أحد جنود الاحتلال المتمركزين قرب “باب الأسباط”؛ أحد أبواب المسجد الأقصى، كان يحرك رأسه متوعدًا الشبان الوافدين إلى المسجد.
وأردف: “قبل المجزرة بنصف ساعة، وضعت قوات الاحتلال الحواجز العسكرية على كل الطرق المؤدية إلى المسجد الأقصى، لكن المصلين كانوا قد تجمعوا في المسجد قبل ذلك التوقيت بساعات”.
وتابع: “كان جيش الاحتلال جاهزًا، بمجرد بدء الاشتباكات، فبدأ بإطلاق النار من أسلحة أوتوماتيكية، وكذلك إطلاق قنابل الغاز السام، فيما كانت طائرات الهليكوبتر العسكرية تحوم فوق المكان، واستمر إطلاق النار من الجيش والمستوطنين لمدة 35 دقيقة كاملة”.
وأفاد المصور الصحفي محفوظ أبو ترك، والذي تفرّد بتوثيق المجزرة بعدسته، بأنه كان من غير المعتاد لأي مستوطن دخول المسجد الأقصى في تلك الفترة، مشيرًا إلى أن المصلين أصروا، حينها، على تأدية الصلاة في الساحة الخارجية قبالة المصلى القبلي.
وأردف أبو ترك: “فجأة سمعنا صوت انفجار قنبلة صوت أو غاز على ساحات صحن قبة الصخرة، حينها ثار الشبان، وخلال دقائق معدودة رأينا المئات من قوات الاحتلال تدخل بكثافة من بابي المغاربة والسلسلة، وتطلق الأعيرة النارية على المصلين بشكل عشوائي”.
وبيّن شاهد عيان آخر، أن قناصة الاحتلال تمركزوا على سطح المدرسة التنكزية المطل على الجهة الغربية من المسجد، وبدأوا بقنص المصلين وتعمّد إصابتهم في أماكن حساسة وعلويّة من الجسم.
وتابع بأن “الشبان العزّل دافعوا عن أنفسهم بالحجارة فقط، بينما اعتقلت قوات الاحتلال مئات المصلين واقتادتهم إلى سجونها، وملأت الدماء في ذلك اليوم باحات المسجد”.
وزعمّ الاحتلال آنذاك أن مكبرات الصوت في المسجد الأقصى كانت تحرّض المصلين للهجوم على قواته، وهو ما نفاه أبو ترك مؤكدًا أن المكبرات كانت تدعو الشبان للابتعاد حفاظًا على حياتهم.
وروى أن أحد ضباط الاحتلال طلب من عميل له جلب شاحنة ممتلئة بالحجارة ليلقيها قبالة باب المغاربة ويزعم لاحقًا أنها من إلقاء المصلين، فعل العميل ما طلب منه، لكنه عاد بعدها إلى بيته في القدس ليكتشف أن شقيقه قد قتل في مجزرة الأقصى!.
رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى المبارك، عكرمة صبري، واحد من الشهود على المجزرة، أكد في تصريحات صحفية، أن الاحتلال بأذرعه المختلفة خطط حينها لوضع اليد على المسجد الأقصى بأجواء حربية عدوانية.
وأوضح: “ما إن بدأ الناس بالهتاف ضد الاحتلال حتى دخلت أعداد كبيرة من القوات الخاصة وجنود وشرطة الاحتلال للمسجد من عدة أبواب، وبدأ إطلاق الرصاص بشكل عشوائي وكثيف”.
ونوه صبري إلى أن “قوات الاحتلال استعانت حينها بالطائرات للمشاركة في المجزرة، لكثرة أعداد المعتكفين بالمسجد، ولم يتمكن الجيش من محاصرتهم على الأرض”.
ولفت إلى تغيير الاحتلال من سياسته بالأقصى تدريجيًا، “إذ ينفذ حاليًا اقتحامات عسكرية للمسجد، لكنه يتجنب القتل المباشر باستخدام الرصاص الحي، ويلجأ لاستخدام الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية والغازية لتفريغه من المعتكفين”.
وأشار رئيس الهيئة الإسلامية، إلى تنامي سياسة الإبعاد والاعتقالات الاحترازية قبيل تنفيذ المستوطنين لاقتحاماتهم الكبيرة خلال الأعياد اليهودية لضمان سيرها بهدوء.
المقدسية نهى غراب (66 عامًا)، سمعت من منزلها في حي وادي الجوز صوت الرصاص الحي يُطلق بكثافة داخل المسجد الأقصى، ارتدت ملابسها وهرولت باتجاه المسجد، وفق قولها.
وذكرت: “هناك رأيت جثثًا هامدة لشبان ارتقوا على ساحات مصلى قبة الصخرة وما زالت الدماء تسيل منهم، (…)، صدمت حين تنقلتُ بين جثث الشبان بعد أن هدأ إطلاق النار”.
وصرّحت: “أذكر أن جميع الشهداء دُفنوا بالسر خشية إقدام قوات الاحتلال على خطف الجثامين وحرمان الأهالي من دفنها”.
ومن الجدير بالذكر أن الوقائع والأحداث التي جرت في القدس بعد احتلال الضفة الغربية كاملة عام 1967، تُشير إلى أن مخطط التهويد للأماكن المقدسة قد بدأ إعداده والعمل على تنفيذه خطوة خطوة منذ الإعلان عن القدس “عاصمة موحدة” لدولة الاحتلال.
وكان إغلاق الأقصى أسبوعًا كاملًا في وجه المسلمين بعد الاحتلال مباشرة بمثابة إفصاح علني عن نوايا التهويد المبيتة للقدس وأماكن العبادة فيها، وفي مقدمتها الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك بكل باحاته ومصلياته.
ولقد برز المخطط الصهيوني التهويدي بشكل جامح وفاضح بعد قيام المتطرف كوهين بإحراق المصلى القبلي من المسجد الأقصى في أغسطس/ آب 1969.
وكشفت الاعتداءات الوحشية على المصلين في المسجد الأقصى عن أبعاد مخطط التهويد ومراميه، حيث كانت تظهر على ألسنة دعاة التهويد بعد كل اعتداء، سواء مجزرة الأقصى الأولى عام 1990 التي ارتقى على أثرها 21 شهيدًا من المقدسيين، أو التصدي الصهيوني لهبة النفق عام 1996 التي استشهد فيها 63 فلسطينيًا مسلمًا دفاعًا عن الأقصى المبارك.حسب تقرير لوكالة “قدس برس” إنترناشيونال للأنباء