بقلم : تيسير خالد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
كان لمدينة القدس مكانة سياسية وتاريخية وروحية عظيمة في فلسطين ولم يكن لها وضع قانوني خاص حتى قرار التقسيم لعام 1947. قدم قرار التقسيم 181 لعام 1947 لأول مرة مفهوم “ corpus separatum ” ، أو نظام خاص لمدينة القدس والقرى والبلدات المحيطة بها . وقد اعترف القرار بأهمية القدس بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاثة ، وأعيد تأكيد ذلك بموجب القرار 185 المتعلق بحماية مدينة القدس وسكانها ، وبتقرير وسيط الأمم المتحدة لفلسطين ، الكونت فولك برنادوت ، الذي قدم توصيات لتنفيذ ذلك القرار ، وتعيين ﻣﻔﻮﺿﻴﺔ ﺑﻠﺪﻳﺔ ، وإﻧﺸﺎء لجنة ﺗﻮﻓﻴﻖ ﻟﺘﻨﻔﻴﺬ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺮارات. وقد تم تبني توصياته ، بعد اغتياله بوقت قصير ، في القرار 303 قي 9 ديسمبر 1949.
لم يتم تنفيذ تلك القرارات . فمع انسحاب قوات الانتداب البريطانية من فلسطين احتلت القوات اليهودية القدس الغربية ، بما في ذلك ثمانية أحياء عربية ، أما الجيش الأردني فقد حافظ على القدس الشرقية بما في ذلك البلدة القديمة وأصبح الجزء الشرقي من المدينة جزءا من في الضفة الغربية في اطار المملكة الأردنية الهاشمية. وبقي الامر كذلك حتى العام 1989 عندما اعلن الاردن فك الارتباط مع الضفة الغربية
وفي أعقاب حرب 1967 ، قامت القوات الإسرائيلية باحتلال المدينة بأكملها ، مع باقي الضفة الغربية ، وشرعت إسرائيل في تنفيذ عدد من الخطوات لتغيير الوضع القانوني والميداني للمدينة. وكانت الخطوة الأولى أن أعلنت أنها سوف تطبق القانون والإدارة الإسرائيلية الكاملة على القدس الشرقية في قانون البلدية الإسرائيلي . كما اتخذت اسرائيل عددا من الخطوات الإدارية لتنفيذ سياستها أولا بتوسيع الحدود البلدية لمدينة القدس بطريقة عشوائية ، لتشمل أكبر مساحة ممكنة من الأرض واستبعاد أكبر قدر ممكن من السكان الفلسطينيين وثانياً بإصدار بطاقات هوية زرقاء لسكان بلدية القدس الموسعة ، وهي تختلف عن البطاقات البرتقالية التي كان يصدرها الحكم العسكري في باقي مناطق الضفة الغربية.
سارع المجتمع الدولي إلى إدانة ورفض الإجراءات الإسرائيلية في القدس ، غير أنه لم يتم التركيز على تلك الإجراءات حتى أقر الكنيست الإسرائيلي عام 1980 “القانون الأساسي” الذي أعلن عن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وضم القدس الشرقية رسميًا إلى دولة اسرائيل . وردا على ذلك تحركت الجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك مجلس الأمن الذي أعاد التأكيد على القانون الدولي الذي يرفض ضم اراضي الغير بالقوة ، مؤكداً بعدد من القرارات أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الضفة الغربية وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وعلى انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على القدس كجزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة ، ورفض جميع الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب بشأن القدس . غير أن الولايات المتحدة ، رغم موافقتها الرسمية على هذا الموقف ، استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد عدد من القرارات التي كانت ستؤدي إلى اتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل لخرقها القانون الدولي.
وأكثر أهمية من الخطوات القانونية ، شرعت إسرائيل في تهويد المدينة بهدف خلق أغلبية يهودية فيها من خلال سلسلة من الاجراءات والتدابير كمصادرة الأراضي الفلسطينية وتجميد جميع أعمال البناء للفلسطينيين تحت ذرائع مختلفة وتطبيق بعض التدابير الإدارية الرامية إلى تغيير الوضع على الأرض بشكل جذري ، ومنح الأفراد في القدس الشرقية بطاقات هوية زرقاء وليست جنسية إسرائيلية وتم اتخاذ عدد كبير من الإجراءات الإدارية للحد من عدد الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية
وقد تجاهلت اسرائيل تمامًا القانون الدولي لسبب جوهري وهو عدم وجود جهاز تنفيذي في الامم المتحدة يلزم اسرائيل باحترام القانون الدولي واعتقادا من حكوماتها المتعاقبة بأن المجتمع الدولي سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى قبول الامر الواقع والمراهنة في الوقت نفسه بأن الفلسطينيين انفسهم في المدينة سوف يقبلون بالواقع الجديد ويستسلمون لترتيباته
وتجري السيطرة على الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية من خلال الانتشار الواسع للمستوطنات والبؤر الاستيطانية ومواقع سيطرة جيش الاحتلال من خلال نحو 450 موقع سيطرة ، 158 مستوطنة ، منها 29 مستوطنة في القدس المحتلة نحو 250 بؤرة استيطانية وعشرات المواقع العسكرية ، التي توفر الأمن للمستوطنات والمستوطنين .
كما استخدمت اسرائيل قوانين التنظيم والبناء للحد من النمو العمراني والسيطرة على النمو السكاني عن طريق التنظيم والتخطيط وإغلاق مناطق حول البلدة القديمة بإعلانها مناطق خضراء يمنع البناء عليها للحد من التوسع والبناء العربي ، ما جعل 40٪ من مساحة القدس الشرقية مناطق خضراء يمنع البناء الفلسطيني عليها ، ولكنها تعتبر مناطق احتياط استراتيجي لبناء المستوطنات ما دفع السكان إلى البناء دون ترخيص أو الهجرة باتجاه المناطق المحاذية لبلدية القدس
وجاء جدار الضم والتوسع ليعمق السيطرة الاسرائيلية على القدس . وقد بدأت سلطات الاحتلال العمل في بناء جدار الفصل العنصري حول القدس في تموز 2003 في مقطعين من شمال وجنوب القدس ابتداءً من جنوب بيتونيا غرباً وحتى مخيم قلنديا شرقاً، وأما المقطع الجنوبي فهو من مدخل مدينة بيت لحم غرباً وحتى بلدة بيت ساحور شرقا ثم قامت إسرائيل بتحديد مسار الجدار في باقي المواقع المحيطة في القدس حيث بدأت في الطرف الشرقي من بلدة بيت ساحور جنوبا حتى الطرف الشرقي لبلدة العيزرية شمالا، ومن الطرف الجنوبي لقرية عناتا وحتى مخيم قلنديا شمالا .
ويعزل الجدار ما مساحته 152,918 دونما من أراضي محافظة القدس ويضم إلى داخل حدود القدس 24 مستوطنة إسرائيلية. إحدى الأهداف من تشييده تتمثل في توسيع حدود بلدية القدس المحتلة ، للسيطرة على أكثر من 10 % من مساحة الضفة
وفي القدس يجري توسيع مساحة البلدية لتشمل دائرة قطرها حوالي 30 كم في اطار مخطط القدس الكبرى وتمتد من حدود مدينة رام الله شمالا حتى حدود بيت لحم جنوبا
ويهدف مخطط القدس الكبرى لجعل حدود منطقة القدس الحضرية ( metropolitan Jerusalem) اكثر من 600 كم مربع ، أي حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية ، وهو ما يشكل حاجزا بين جنوب الضفة وشمالها ، حيث تمتد القدس إلى مشارف منطقة أريحا.
كيف هي صورة الوضع الراهن في القدس : بلغ عدد السكان في القدس حتى نهاية عام 2016 885 الف منهم 62% يهود و38% عرب ، عدد العرب في شرق القدس هو 327,700 مقابل 214,600 مستوطن حتى نهاية عام 2016 أمّا في غرب القدس فعدد المستوطنين هو 335,500 مقابل 4,700 من العرب .
ويعيش 79 % من المقدسيين وفق المقاييس الاسرائيلية تحت خط الفقر . وتزداد المعاناة بفعل سياسة هدم البيوت ، فقد هدمت سلطات الاحتلال ما يزيد على 5000 بيت ومنشأة في شرق القدس منذ احتلالها عام 1967 ، بينما سحبت الهوية المقدسية من أكثر من 14,500 مقدسي ، ويصل عدد من تأثروا بسحب الهويات إلى حوالي 100 ألف مواطن مقدسي
الآن وفي ضوء هذه القراءة للأوضاع في القدس ، كيف نقرأ قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل وقرار نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس .
القرار معاكس لسياسات ومواقف 12 رئيسا اميركيا سابقا ( من هاري ترومان حتى باراك اوباما) خلال 17 فترة رئاسية. وهو مخالف لعشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بدءا من قرار التقسيم عام 1947، وصولا للقرار 2334 ومخالف لجميع التزامات الولايات المتحدة تجاه عملية السلام ومخالف للقانون الدولي والتزامات الولايات المتحدة بوصفها دولة كبرى ومسؤولياتها تجاه الأمن والسلم الدوليين. ويشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بفرض منطق القوة وشريعة الغاب بدل القانون الدولي والشرعية الدولية .
ويشجع القرار المخططات الإسرائيلية في القدس فالفلسطينيون في القدس لا يتمتعون بحقوق المواطنة ، ولكن بحق “الإقامة الدائمة ” وهو حق مشروط يمكن انتزاعه في أي لحظة ، ويخضع بشكل دوري للتدقيق والمراقبة من قبل جهات متعددة من بينها وزارة الداخلية والبلدية والأجهزة الأمنية. كما يشجع السياسات الإسرائيلية في القدس القائمة على التطهير العرقي للفلسطينيين الصامت احيانا والذي يجري تنفيذه بالتهجير القسري العلني أحيانا اخرى ( قيود على الإقامة والبناء وتسجيل المواليد ولم شمل العائلات ، وتردي الخدمات ، أسرلة التعليم ، سيطرة على العقارات ) وإحلال المستوطنين مكان المواطنين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من كل سياسات التطهير العرقي لا يزال عدد المواطنين الفلسطينيين في حدود المدينة حوالي 320 الف فلسطيني يشكلون حوالي 37% من إجمالي سكان القدس (غربا وشرقا)، وتوجد خطط لإخراج نحو 100 الف فلسطيني من حدود البلدية ( مخيم شعفاط ، التجمع الفلسطيني في كفر عقب وسميراميس ، ولا حقا ربما إخراج أحياء كثيفة السكان مثل جبل المكبر) مقابل إدخال 150 الف مستوطن ، بهدف تحويل الفلسطينيين في القدس إلى أقلية لا تزيد عن 15% من السكان ومحدودة التاثير.
وتحول خطة القدس الكبرى التجمعات الفلسطينية إلى جيوب منعزلة ، كما هو حال الأحياء الفلسطينية داخل مدينة القدس ، وفي محيطها ( العيزرية وابوديس ) وقد يشمل ذلك مدينة بيت لحم وجوارها اذا امتد مخطط القدس الكبرى ليشمل تجمع مستوطنات غوش عتسيون وهو تجمع مرتبط عمليا بشبكة من الطرق السريعة والخدمات بمراكز القدس الغربية. وتبقى الطريقة الوحيدة المتبقية لربط التجمعات الفلسطينية بعضها ببعض هي شبكات الانفاق التي سبق أن أشار لها ارييل شارون في تعليقه على شرط الرئيس جورج بوش الابن حين تحدث الأخير عن دولة فلسطينية متصلة
ويترتب على خطة القدس الكبرى الفصل التام بين محافظات جنوب الضفة (بيت لحم والخليل) ومحافظات الوسط والشمال ، مما يتناقض مع إمكانية وفرص قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة
وانتزاع القدس من الفلسطينيين وفصلها عن باقي الضفة الغربية والشعب الفلسطيني يعني انتزاع المركز الروحي والثقافي والسياسي لحياة الفلسطينيين على مر العصور ، وبالتالي محاولة حرمان الفلسطينيين من ابرز العناصر التي تجعلهم شعبا ذا طموحات وطنية ، وتحولهم إلى مجموعات متناثرة من السكان ، لكل مجموعة همومها الحياتية الخاصة المستقلة عن هموم المجموعات الأخرى.
في السياق تأتي قضية الخان الأحمر ، وتهجير التجمعات البدوية باعتبارها جزءا من مخطط القدس الكبرى الرامي للسيطرة على كل السفوح الشرقية لجبال القدس ( قرار مصادرة 12400 دونم الصادر عام 1997) ، حيث تشكل المنطقة E1 الحلقة المتبقية لاستكمال السوار الاستيطاني المحكم حول القدس ، وهذه عملية تهجير قسري وتطهير عرقي ما كان لها ان تطرح على جدول اعمال حكومة اسرائيل بهذا هذا الوضوح لو لم تكن مطمئنة ان الادارة الاميركية سوف توفر لها الحماية من المساءلة الدولية ، خاصة وأنها تعلم ان عملا من هذا النوع يندرج في إطار جرائم الحرب .
وبصرف النظر عن مواصلة الادارة الاميركية توفير الحماية لسياسات حكام تل ابيب في القدس ومحيطها كما في بقية محافظات الضفة الغربية ، فقد قرر الجانب الفلسطيني من أجل حماية حقوق الفلسطينيين في القدس باعتبارها عاصمة دولة وشعب فلسطين العمل في مسارين : الأول التوجه لمحكمة العدل الدولية وطلب رأيها الاستشاري في سياسة الادارة الاميركية واعترافها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الاسرائيلي ونقل سفارتها من تل أبيب الى القدس بالتالي ، والثاني التوجه للمحكمة الجنائية الدولية والطلب من المدعية العامة إحالة ملف جرائم الحرب الاسرائيلية في القدس ، بما فيها التهجير القسري والتطهير العرقي الصامت والمعلن ، الى الشعبة القضائية في المحكمة والبدء بفتح تحقيق قضائي دون إبطاء أو تأخير في هذه الجرائم الموصوفة وفقا لنظام روما للمحكمة الجنائية الدولية ذاتها .