عميره هاس
بأمر من الله لم يذبح ابراهيم ولده اسماعيل، بل ذبح كبش فداء له. صعد الدم الذي سفك الى الأعلى وخلق درب التبانة. سقطت نقاط منه الى الأسفل على الأرض، وهكذا نشأت مصادر المياه التي هي هبة من الله. هذه القصة يمكن سماعها من البدو في سيناء، قالت عالمة الانثروبولوجيا التي طلبت عدم ذكر اسمها. هي لم تسمع قصة مشابهة لدى البدو الفلسطينيين. فهؤلاء أيضاً تربوا على الانضباط الاخلاقي والعملي له. لأن مصادر المياه مثل الوديان والينابيع هي من الله يجب عدم تخصيصها وتسييجها ومنع الوصول اليها. ولأنها أملاك عامة يجب الحرص على استخدامها بطريقة معقولة ـ لا تنصب الخيام على ضفاف الوديان أو قرب الينابيع، بل على بعد بضعة مئات من الامتار عنها لعدم تلويثها وعدم منع الآخرين من الوصول اليها.
آبار جمع مياه الامطار، التي حفرها البدو في محطاتها الثابتة، قصة اخرى. لأنهم اشتغلوا فيها فهي تعتبر آبارا خاصة. في سنوات الخصب عندما تمتلئ الآبار بالمياه حتى في الصيف، يمكن توزيع المياه على الآخرين أو بيعها. وفي سنوات الجفاف تخدم البئر فقط العائلة. الارتباط بالبئر يحدد موقع الخيمة: سفح تل، هناك يتجمع قدر كبير من مياه الأمطار.
في شتاء 1972 لم تكفِ مياه الأمطار، هذا ما يتبين من رسالة رسمية كتبها في أيار من تلك السنة الملازم عزرئيل دافيد، مساعد شؤون القرى للقائد العسكري لمنطقة رام الله، ولرئيس قسم الاقتصاد وضابط المياه في قيادة اركان الضفة الغربية. “تبين لي أنه يوجد نقص شديد في المياه لدى البدو في منطقة رام الله. واليكم موقع الآبار التي هي بحاجة ملحة لملئها…”، كتب.
بعد ذلك فصل نقاط تموضع الـ 12 بئر – آبار لعائلات ممتدة من قبيلة الكعابنة وقبيلة الجهالين (هو يتعامل مع عائلة عرعارة – صرايعة كقبيلة منفصلة في حين أنها فرع من قبيلة الجهالين). الآبار المذكورة والتجمعات البدوية الموجودة قربها توجد في جانب شارع اريحا – القدس، حزما وشارع الطيبة – اريحا. في السنوات اللاحقة تم تزويد المياه للبدو في جنوب الضفة بصورة منتظمة وبوساطة ربطها بشبكة المياه. في 12 شباط 1976 ارسل ضابط المخصصات المائية في قيادة الضفة الغربية تفصيلاً لفواتير استهلاك المياه للبدو في منطقة “يهودا” الى مساعد رئيس قسم الاقتصاد، على سبيل المثال أم الخير – 994 ليرة، وحاش أو درج – 1428 ليرة.
الاهتمام بتوفير المياه يدل على أن الحكم العسكري ادرك أن إحدى مهماته حسب القانون الدولي هي تأمين الحاجات الاساسية للسكان المحليين. ولكن في الوقت ذاته فإن قادة عسكريين بتوجيهات من المستوى السياسي في حكومة “المعراخ” تسلوا منذ بداية السبعينيات ببرامج توطين البدو – أي وقف نمط حياة الترحال والرعي بين محطتين ثابتتين (في المناطق العالية في الصيف والمناطق المنخفضة في الشتاء) وتوطينهم في مواقع ثابتة. هكذا تظهر وثائق عسكرية من السبعينيات وبداية الثمانينيات، توجد في الارشيف العسكري. حتى 1981 فإن معظم الوثائق كانت سرية أو محدودة النشر في حينه، لا تفصل الاسباب لتوجه توطين البدو في “المناطق” المحتلة من العام 1967. وأنها عرضت تجاه الخارج كـ”مسيطر عليها مؤقتا” من قبل اسرائيل. من العام 1975 هناك وثيقة فريدة تتعلق بالوزير إسرائيل غليلي.
تظهر هذه الوثائق تواصلاً في التخطيط الاسرائيلي، على خلفية برامج التوطين التي تحاول الادارة المدنية فرضها الآن على الجهالين والعشيرة المنبثقة عنها أبو داهوك في منطقة الخان الاحمر، ونقلهم بالقوة الى الجبل، وهو موقع شبه حضري قرب مكب النفايات في أبو ديس.
في العام 1997 نقلت الى هناك قسراً عائلات من عشيرة السلامات. وذلك للتمكين من توسيع “معاليه ادوميم”. عندما لم تتحقق المخططات السابقة من بداية السبعينيات، نفذ منذ ذلك الحين في المنطقة تقليص متواصل لمجال الرعي وامكانية كسب الرزق للبدو – بوساطة منع وصولهم الى مصادر المياه، الاعلان عن مناطق رماية، محميات طبيعية وتدريبات. منذ ذلك الحين ورغم أنفهم وجد حوالي 25 تجمعا بدويا أنفسهم بين القدس واريحا، يعيشون في مناطق ثابتة ومحدودة في مساحتها، وفي ظروف عيش قاسية تزداد صعوبة، دون مصادقة اسرائيل على اضافة خيام سكنية وحظائر، وحتى عدم اضافة مدارس وعيادات طبية.
الوثائق الصامتة
في شهري تشرين الثاني وكانون الاول 1971 تم تبادل رسائل كثيف بين عدد من الضباط في منطقة رام الله. وكان موضوعها توطين البدو. وقد وجهت الرسائل الى رئيس قسم الاقتصاد في قيادة الضفة الغربية، الذي لم يذكر اسمه، وضابط المهمات الخاصة وضابط شعبة البدو الذي كان في حينه النقيب يغئيل جلعادي. ومن كتبوا الرسائل هم ضباط في قيادة الاركان: ضابط الاشغال العامة، ضابط المياه، القيم أو المسؤول عن أملاك الغائبين والاملاك الحكومية والمسؤول عن تطوير المياه في وزارة الزراعة. وقد بحثوا عن مواقع مناسبة لتجمعات من القبيلتين الاساسيتين في المنطقة، الكعابنة والجهالين. وقد حسبوا تكاليف شق شارع والربط بمصادر المياه المتوفرة. وتحدثوا عن استثمار رخيص نسبيا وعن تكاليف عالية جدا للمشروع المقترح. في كانون الثاني 1972 التقى نائب القائد العسكري، الرائد موشيه ليفي، مع مخاتير التجمعات الاربعة (أبو داهوك ليست من بينها) في منطقة رام الله. وأبلغهم عن المواقع الثابتة التي اختيرت من اجلهم. وتم تحديد جولة مشتركة في تاريخ 11 كانون الثاني.
ولكن بعد حوالي نصف سنة ظهرت الصعوبات. في 27 تموز 1972 كتب المقدم موشيه كلدمان، قائد منطقة رام الله، لرئيس قسم الاقتصاد: “قبل بضعة ايام ارسلت لمساعدك تقريرا بأننا فشلنا في محاولتنا توطين البدو في خط المستوطنات الواقع على سفح الجبل، على ضوء ما تم الاتفاق عليه في هذا الشأن، من اجل توفير تكاليف التوطين”. يبدو أنه واجه القيم عدد من الصعوبات في تحديد (كما يبدو اراض ليست خاصة)، ومن وثيقة سابقة من الواضح أنه كان للقيادة معارضة على جزء من مواقع التوطين.
ولكن في الاساس: “عند الفحص مع رؤساء القبائل تبين أنهم جميعا يعارضون الانتقال من اماكنهم الى خط المستوطنات خوفا من التورط مع القرى وصعوبات في الرعي”. بسبب الخوف من المشاكل مع سكان القرى مالكي الاراضي والرغبة في مواصلة ادارة نمط حياة الرعي، مطروح ايضا اليوم من بين مطالب عائلة أبو داهوك تمكينها من انشاء سكن دائم لها في الموقع الحالي في الخان الاحمر. في تلك السنين قرأ الضباط الاستعراض الذي يتكون من تسع صفحات الذي كتبه ايلان هجلعادي.
وهو يفصل اسماء القبائل وفروعها (العشائر) التي تعيش في الضفة الغربية حسب المناطق. وشرح عن تاريخها في البلاد. الجهالين، قال، جاءت من شرق الاردن في نهاية القرن السابع عشر أو بداية القرن الثامن عشر. وأشار الى طردهم من النقب بعد 1948. وقد ذكر عدد قطعانهم ومن يعمل في القدس من بينهم، وأي نزاعات موجودة بين العشائر أو القبائل ومن هم المخاتير.
يشير استعراض هجلعادي الى أن الكثير من التجمعات البدوية ايضا تقوم بفلاحة الاراضي وتربية الحيوانات الأليفة، وهي توجد في عملية متقدمة قبيل عملية التوطين. جزء من التعميم في الاستعراض يدلل ايضا على الكاتب: “البدوي يتمتع بمستوى مرتفع من الجشع… من النظام هو يطلب معيارا مختلفا في المضمون. واذا وجد لديه صدق واستقامة فانه يحترمه من اعماق قلبه… ومن اجل كسب ثقة البدوي أنت بحاجة الى الصبر والى فترة تواصل مكثفة. ولكن عندما تحظى بثقته يصبح التعامل معه سهلا وبدون اعتراض”.
في 10 كانون الاول 1975، اشار الرائد راني لنغر، رئيس مكتب قائد المنطقة الوسطى، الى أنه بناء على طلب الوزير اسرائيل غليلي من قائد المنطقة، يجب اعداد ورقة عمل حول “الاماكن التي تتركز فيها التجمعات البدوية في الضفة الغربية… في السياق المذكور اعلاه مطلوب توصيات لمنحى توطين ثابت للتجمعات المذكورة من خلال خلق دوافع لذلك، في الاماكن ذاتها التي لا تعيق ولا يتوقع أن تضر مستقبلا بخطط الاستيطان”. في حينه كان يوجد على الأجندة مستوطنات في غور الاردن وفي “معاليه ادوميم”. مرت خمس سنوات وراوحت خطط التوطين في المكان (باستثناء توطين قبيلة الرشايدة في جنوب بيت لحم). هل فهم الضباط أن النقل بالاكراه وبسرعة لاستيطان ثابت يناقض نمط حياة البدو؟ الوثائق تصمت.
سواء مع أو بدون علاقة، في 14 كانون الاول 1975 قدم المستشرق الدكتور موشيه شارون توصيات توطين لرئيس قسم الاقتصاد، الدكتور افرايم احيران. على اساس ورقة العمل بخصوص البدو التي كتبها قبل بضعة اشهر. الجهالين، التي فرعاها الاساسيان، الدواهيك والسلامات، “يتجولون في جنوب منطقة رام الله وشمال منطقة بيت لحم، هم الاكثر اشكالية”، قال شارون لكنه لم يفسر لماذا.
كتب شارون أنه على قناعة باستخدام البدو في مهمات أمنية جارية من المراقبة وقص الأثر بشكل خاص في منطقة ترحالهم، وهي مناطق يمكن أن تستخدم كمناطق انتقال للاشخاص الذين يقومون باعمال تخريبية معادية. ورغم التطرق الوظيفي لهم في اقتراح التوطين، يبدو ان شارون ما زال يرى امام ناظريه الحفاظ على التجمع كتجمع رعاة مع فضاء ما للرعي وامكانيات تربية الاغنام وتحسين القطعان.
مشكلة حكومية
الوثائق التي توجد لدينا تقفز الى العام 1981، أي بعد اربع سنوات على سقوط حكومة “المعراخ”. في شهر أيار قدم د. شارون استعراضا طويلا واكثر تفصيلا عن البدو في الضفة الغربية، ارسله للنشر بصورة واسعة تشمل الحكام العسكريين في المناطق المختلفة وضباط “الشاباك” المختلفين. “البدو يوجدون في كل مناطق يهودا والسامرة” قال، “لكنهم يشكلون مشكلة حكومية”. فقط في ثلاثة منها هي الخليل وبيت لحم ورام الله. هذه المرة ذكر التوطين بصورة صريحة وفي سياق المستوطنات الاسرائيلية. في تطرقه لعشيرة السلامات من قبيلة الجهالين الذين يوجدون في قرية العيزرية – ابو ديس، كتب “المشكلة الرئيسية التي تخلقها الجهالين تتمثل في حقيقة أنهم استولوا على مناطق مخصصة للاستيطان ومحاذية لها”. يبدو أنه حسب رأيه، حقيقة أنهم كانوا هناك قبل الاستيطان لا تعطيهم حقوقاً. من جهة اخرى، هو يعترف أن أبو داهوك يعانون من نقص سريع في مناطق الرعي، مثل تجمعات بدوية اخرى في منطقة رام الله. التداعيات الأمنية تهمه: معاداة أبو داهوك لاسرائيل تزيد، هو يفترض، “بسبب حقيقة أن جزءا كبيرا من مناطق الرعي تم الاستيلاء عليها لحاجات الاستيطان”.
يقترح شارون مواصلة تشجيع البدو بدون فضاء رعي (ديرة) للسكن في القرى – وهي عملية بدأت قبل بضع سنوات في الرام وجبع. وهو يقترح ايجاد منطقة دائمة بدل خيام الصيف والشتاء للجهالين. ينتصر المستشار العسكري على الباحث ويكتب: “من اجل تسهيل العملية في اوساط أبو داهوك سيفحص طاقم البدو، على ضوء النزاعات في القبيلة، امكانيات تجزئتها عن طريق تعيين مختار آخر”. في ايلول 1981 واصل النقيب اريئيل تسوبري، ضابط الاشراف على البدو، طريق شارون. هو يعرف أنه منذ الخمسينيات وعائلة الدواهيك تنتشر بين بيت حنينا وشعفاط في الصيف وقرب شارع اريحا – القدس في الشتاء. وهو يقترح تركيزهم، 500 نسمة حسب تقدير د. شارون، في مكان واحد – شرق قرية جبع (التي تقع في شرق رام الله). المكان موجود اليوم تحت سيطرة البؤرة الاستيطانية “آدم”.
حسب تسوبري، الاعلان عن المنطقة كاراضي دولة او احتلالها للاغراض العامة مقرونة باجراءات قانونية طويلة ومعقدة، ومن شأنها أن تثير معارضة سكان القرى في المنطقة. الخيار الثالث هو المفضل لديه: نقل البدو الى منطقة غير مستخدمة من قبل أي جهة قانونية بخصوص مكانة الارض. والقول للبدو إنهم لا يستطيعون مواصلة العيش على محور حزما – “معاليه ادوميم”. وعليهم الانتقال الى المنطقة الجديدة.
كُتبت توصيات شارون وتسوبري بعد سنتين عندما قدم احد اعضاء نواة “كفار ادوميم”، اوري اريئيل (في بداية 1979) للجيش خطة لاخلاء البدو من المنطقة التي تسمى الآن “غوش ادوميم”، واقامة ممر من الاستيطان اليهودي المكتظ وتحديد مناطق البناء في البلدات والقرى الفلسطينية.
عن “هآرتس”