بقلم: رائد دحبور
هل يمكننا تحديد المحطة الزمنية التي بدأ فيها الإستيطان، حيث انطلق مفعما بادعاءات الثيولوجيا والآيدلوجيا والأمن والسياسة، وبعديد الوقائع السياسية والديمغرافية والاقتصادية النخبوية التي فرضتها حقائق القوة، وتفوق القوة ؟؟.
نعم؛ يمكننا ذلك بكل تأكيد؛ فقد بدا الاستيطان كنغمة – كانت تبدو فرعية أو هامشية – على مسرح أوركسترا ثالوث السياسة والجيش والمجتمع في إسرائيل في شهر آب من سنة 67 وقد جرى ذلك بالمعنى التاريخي والسياسي عشية حرب حزيران عام 1967 مباشرة، ثم تحول مع مرور الوقت إلى لحن أساسي في تلك الأوركسترا الثلاثية بين السياسة والجيش والمجتمع تحت مظلة الآيديولوجيا القومية والدينية.
فبين حيرة رئيس الحكومة ” ليفي أشكول ” آنذاك حيال البدء بالاستيطان عشية الاحتلال لمناطق الضفة الغربية – ثم حسمه لموقفه تجاه البدء بالاستيطان وذلك بموافقته على فكرة العودة إلى مستوطنة كفار عتصيون – والتي تحولت مع مرور الزمن إلى المجمع الاستيطاني الهائل المعروف بمجمع غوش عتصيون بين القدس والخليل – وكفار عتصيون هي المستوطنة التي كانت واقعة في الجنوب الغربي من القدس حيث استولى عليها الجيش الأردني في حرب عام 48، وفكرة العودة إلى كفار عتصيون كان قد اقترحها كل من حنان بورات والحاخام موشيه ليفنغر. وقد جاء في ذات السياق أيضا موافقة أشكول على الإستيطان في قلب الخليل في شهر آب من عام 1967 وهي كذلك الفكرة التي اقترحها موشيه ليفنغر وحنان بورات وحظيت بدعم كل من وزير الدفاع موشيه ديان، وإيغال ألون ويسرائيل غاليلي وشمعون بيرس.
لقد زعم موشيه ليفنغر آنذاك أنه تلقى رسالة تشجيع من الرب عبر دعم وزير الدفاع موشيه ديان لفكرة الاستيطان في قلب الخليل، حيث احتل ليفنغر وأتباعه جناحا في فندق بارك في الخليل؛ ثم تم مقايضة إخلاء الفندق مقابل إنشاء البؤرة الاستيطانية في كريات أربع؛ وهذا ما كان فعلا. وقد تكللت فكرة رحلة العودة إلى كفار عتصيون بالنجاح أيضا؛ وقد كان الاستيطان يبدو في تلك المرحلة نخبويا آيديولوجيا بالدرجة الأساسية، قبل أن يتحول ومع مرور الزمن ووصولا إلى المرحلة الراهنة إلى استيطان شعبوي يستقطب الفئات الأكثر هامشية في المجتمع الإسرائيلي على صعيدي الاقتصاد والمجتمع؛ وهو الأمر الأخطر حاليا في المضامين الأكثر عمقا فيما يخص ربط مجريات وواقع ووقائع وأهداف الاستيطان بأهداف اجتماعية واقتصادية أكثر عمقا وشمولا داخل نسيج المجتمع الإسرائيلي؛ حيث يحصل المستوطنون – من الفئات الاجتماعية الهامشية – في الضفة الغربية على مزايا اقتصادية وضرائبية وخدماتية لا تتوفر لهم في داخل إسرائيل، وتحديدا في ميتروبولين تل أبيب ومحيطها.
وفي ذلك المناخ – أي في مرحلة ما بعد حرب حزيران عام 67 – وتحديدا في أيلول من ذلك العام، كانت اللجنة المركزية لحزب ” رافي ” تستعد لبحث اقتراح شمعون بيرس بتوحيد حزبي رافي ومباي مع أحدوت ععافوداه – حزب العمل الموحد – فقد قام شمعون بيرس بصياغة وثيقة من أربع عشرة نقطة تحدث فيها عن خطوط العمل السياسي والاجتماعي والاستيطاني للحزب في أعقاب الحرب التي أنقذت إسرائيل من الحصار ومن خطوط الهدنة – هدنة حرب عام 48 – والتي عمقت العلاقة بين اليهودي وماضيه.. وذلك وفق ما جاء في تلك الوثيقة التي صاغها شمعون بيرس آنذاك. ولدى التحليل النهائي؛ فإن مثل تلك الوثيقة ونظيراتها وتطبيقاتها العملية فيما بعد قد صاغت سكة مسار السياسات الإسرائيلة تجاه المناطق المحتلة حتى الآن.
وفي مناخ القلق من تمدد الاستيطان فيما أعقب ذلك من سنوات؛ بدأت مسيرة التسوية السياسية في عام 1992 وفي مناخ القلق من استئنافه وانتشاره بشكل غير مسبوق – على يد حركة غوش أمونيم التي تم بعثها من جديد بعد عام 2000 – توقفت المفاوضات عام 2014.
بالإجمال؛ يفرض الاستيطان جملة من التحديات الصعبة والعقبات المستحيلة أمام طريق دبلوماسية الحلول السياسية؛ التي تحاول إسدال الستار على عقود من الصراع، كما يفرض جملة من الخيارات المستحيلة أمام الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء؛ وذلك لجهة الوصول إلى حلول واقعية قابلة للتطبيق، حيث يستحيل ذلك باطراد مع كل دورة دورة من دورات عجلة الزمن، التي بات من الواضح أنها تعمل لصالح ترسيخ واقع الاستيطان وصولا إلى ما كان قد تحدث عنه وزير الإسكان الإسرائيلي عام 2014 حيث قال في ذلك الوقت: ” إن المستقبل القادم في – يهودا والسامرة – الضفة الغربية، سيكون مدن إسرائيلية كبيرة، في موازاة مستوطنات فلسطينية معزولة !!.
وهذا الاستيطان – في المحصلة – هو نتيجة سياسات رسمية منهجية مخططة ومدروسة؛ حيث تضطلع به وبتكثيفه تيارت نخبوية اقتصادية وآيديولوجية وسياسية باتت أكثر تأثيرا في مجريات رسم السياسات الداخلية والخارجية في إسرائيل، وهي تجر وراءها قطاعات اجتماعية عريضة من المهمشين، وتجر من ورائها كذلك دولة كاملة وجيشا ومؤسسات أمنية واقتصادية، وتقوم بتطويع وتوظيف سياسات عامة لخدمة واقع ووظيفة ومستقبل الاستيطان، وهي تواصل ذلك النشاط الكلونيالي الاستيطاني في سياق من الديماغوجيا السياسية، وفي إطار من الإصرار على التمسك بمفاعيل إعادة اختراع التاريخ والآيديولوجيا الدينية وتوظيف كل ذلك في إعادة صياغة تعريف هوية المكان وفق مقتضيات الاستيطان، وكذلك إعادة رسم وتسمية طبوغرافيا المكان وتغيير الديمغرافيا السكانية بما يخدم الغايات النخبوية ومن ثم الشعبوية كأداة مستحدثة من أدواته الراهنة والمستقبلية.