بالقرب من قريتي قريوت وترمسعيا تقع خربة سيلون التاريخية في وسط الضفة الغربية، التي تبلغ مساحتها 330 دونما. ووضعت سلطة الآثار الإسرائيلية اليد عليها في أواخر سبعينيات القرن الماضي، دعما للبؤرة الاستيطانية “تل شيلو” التي شكلت حجر الأساس للمشروع الاستيطاني في المنطقة على حساب الأراضي الفلسطينية والتواصل الجغرافي بين رام الله ونابلس.
وتشهد خربة سيلون، التي يزيد عمرها عن 1500 عام، على حقبات تاريخية وآثار ترجع لحضارات مختلفة من العهد البيزنطي والكنعاني والعربي والإسلامي، ومن أشهرها مسجدي العمري والستين والحفارات التي هي عبارة عن كنيستين تملؤهما الفسيفساء بالإضافة إلى المغر وآبار المياه، وموقع محفور بالصخر يقال إن صندوق العهد حفظ فيه بالإضافة للميدة، التي سميت بذلك لنزول مائدة الطعام على النبي عيسى في ذلك الموقع.
ويتم تجاهل نصيب الفلسطينيين وحقهم في التلة القديمة من خلال عرض الموقع كموقع تراث يهودي – مسيحي، بينما يبدو التاريخ العربي والإسلامي، أو اتصال السكان الأصلانيين من القرى قريوت، ترمسعيا، جالود وغيرها، كأنما هو حادث بالمصادفة بل قليل الأهمية، رغم أن الموقع جزء من مواريثهم بغض النظر عن الفترات المعروضة فيه.
وتجسد تجاهل صلة السكان الفلسطينيين بالموقع الأثري والاستيطاني السياحي من خلال منع وصول سكان قرية قريوت إلى أراضيهم ومنع استعمال المسجد الذي ما يزال موجودا في قلب الموقع، كما تم السماح لهم، في العام 2018 وبعد حظر دام 35 عاما، الدخول للموقع الأثري كسياح مقابل رسوم دخول.
ويعتبر الاستثمار المالي في الموقع من أعلى الاستثمارات في المواقع السياحية الاستيطانية في الضفة الغربية، ضمن قائمة المواقع “التراثية الوطنية” التي يتم تمويلها من قبل الحكومة الإسرائيلية، حيث استثمر في الموقع حوالي 20 مليون شيكل لغرض تطويره، فيما تشمل المخططات المستقبلية استثمار عشرات ملايين الشواقل.
وجود وحدود
سكن أهالي قرية قريوت، حتى العام 1978، خربة سيلون التي تعتبر جزء لا يتجزأ من أراضيهم البالغ مساحتها 22 ألف دونم، حيث أعتاد السكان العيش داخل خيم وزرع الأراضي بكافة المزروعات بالخضروات واللوزيات وكروم العنب والزيتون، إلى أن جاء الاحتلال ونصب الخيام وشرع بالحفر في المكان، فيما أخرِج أصحاب الأرض من المكان لحين الانتهاء من الحفريات.
وطال انتظار السكان، والأيام تحولت إلى سنوات وعقود من الانتظار والمقاومة الشعبية. وقال منسق اللجنة الشعبية لمقاومة الاستيطان، بشار معمر القريوتي، لـ”عرب 48″ إن “خيام للبحث عن آثار تحولت إلى أساس لبؤرة استيطانية، توسعت وتحولت مع السنين إلى مشروع استيطاني وضع اليد على عشرات آلاف الدونمات بين نابلس ورام الله، واليوم تحول إلى مشاريع سياحية على حساب الوجود الفلسطيني”.
وأضاف القريوتي أن “خربة سيلون سلبت من قبل سلطة الآثار الإسرائيلية بحجج واهية وزعم أن المكان حجر الأساس لأسباط بني إسرائيل الذين انطلقوا في جميع أنحاء فلسطين، علما أنه لم يعثر في المكان على أي آثار يهودية، بل تم زرع آثار ورموز يهودية وتوراتية في المكان، فيما طمست الكثير من الآثار والإسلامية والمسيحية”.
وهذا النوع من الاستيطان والسياحة في سيلون، وفقا للقريوتي، ما هو إلا عملية غسيل دماغ للسياح الأجانب ومحاولة لطمس الوجود الفلسطيني بل ومحاربة الرواية الفلسطينية من خلال الاستناد لروايات توراتية، وإضفاء الصبغة الدينية على الصراع من أجل تعزيز الوجود اليهودي في الضفة، إذ يتم الترويج والتسويق للسياحة الاستيطانية كأنها جزء لا يتجزأ من الرزم السياحية إلى تل أبيب.
مصادرة وسيطرة
لفت القريوتي إلى أن الموقع السياحي والمستوطنات تخطت الحدود وسلبت من أهالي قرية قريوت قرابة 14 ألف دونم، كما تم مصادرة آلاف الدونمات من القرى المجاورة ووضع اليد عليها واستعمال كروم العنب وحقول اللوزيات والزيتون لصالح زراعة المستوطنين.
وأكد أن السياحة الاستيطانية ما هي إلا ذراع إضافي لسلطات الاحتلال لتنفيذ مخططها الإستراتيجي بالهيمنة والسيطرة على كافة أراضي الضفة الغربية، ويهدف مشروع السياحة الاستيطانية في خربة سيلون إلى تهويد الضفة وفصلها عن جنوبها بالإضافة لجعلها حلقة وصل تربط المستوطنات ببعضها البعض، علما أن المستوطنات المقامة في الضفة والقدس سلبت نحو 435 ألف دونم من أراضي خاصة بملكية الفلسطينيين، فيما تم مصادرة 55 ألف دونم لصالح إقامة معسكرات لجيش الاحتلال بذريعة توفير الحماية للمستوطنين.
حفريات وروايات
تم البدء بحفر الموقع من قبل بعثات أثار دولية مختلفة خلال القرن الـ 20 وفي السنوات الأخيرة. في السنوات 1926-1932 تم إجراء حفريات شاملة من قبل بعثة دنمركية. وجرت حفريات أخرى في السنوات 1981-1984 من قبل جامعة بار إيلان. وبدءا من العام 2010 تشهد المنطقة حفريات أثرية مجددة من قبل جامعة مستوطنة “أريئيل” وضابط الأثريات في “الإدارة المدنية” التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وهذه الحفريات الأثرية والتطوير السياحي للمستوطنات في الضفة الغربية هي وسائل للوصول إلى الجمهور الإسرائيلي الذي ليس جزءا من المستوطنين، وليس بالضرورة داعما للمشروع الاستيطاني. وطريقة العمل في خربة سيلون المسماة “تل شيلو” تشبه طريقة العمل المعروفة في ما يسمى “مدينة داود” في سلوان في القدس المحتلة.
والتصور الذي كان يتبناه مشغلو موقع “مدينة داوود” الاستيطاني هو جذب الجمهور بواسطة السياحة والمواريث. واليوم، كل طالب في جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي يزور “مدينة داوود”.
ويبدو أن الهدف ذاته يوجه مدراء موقع “تل شيلو”، من خلال الوسائل التربوية والمعايشة في الموقع يمكن إثارة الاهتمام لدى جمهور واسع. هكذا يتحول آلاف الزوار إلى داعمين للتواجد اليهودي في الموقع بحكم حقيقة وصولهم إليه كسياح.
انتهاك وتضليل
يرى مسؤول الحملات الدولية في مكتب منظمة العفو الدولية (أمنستي) في القدس المحتلة، ليث أبو زياد، بالترويج للسياحة الاستيطانية داخليا وعالميا جزء لا يتجزأ من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، لافتا إلى أن “أمنستي” تركز في هذه المرحلة على حث شركات السياحة العالمية على الكف عن الترويج للسياحة بالمواقع الاستيطانية في الضفة والقدس، والامتناع عن تضليل السياح وبيعهم رزما سياحية للمستوطنات، لكي لا تكون هذه الشركات شريكة بالانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من المستوطنين.
وأوضح أبو زياد في حديثه لـ”عرب 48″، أن الخطير بما تقوم به بعض شركات السياحة العالمية التي تبيع رزما سياحية عبر المواقع الإلكترونية، هو تضليل الزبائن عندما تكون وجهتهم إلى إسرائيل أو فلسطين وعدم الإفصاح لهم بأن وجهتهم السياحية ستكون إلى مواقع سياحية وترفيهية بالمستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية، بل يعتقد السياح أنهم يزورون إسرائيل.
ولفت إلى أن الحكومة الإسرائيلية وضعت نصب أعينها هدفا للترويج للأماكن السياحية والمواقع الأثرية الدينية اليهودية أو المسيحية في فلسطين لجذب السياح والحجاج الأجانب مع تهميش كامل للوجود الفلسطيني، مبينا أنه بالترويج لخربة سيلون، يتم الترويج إلى “تل شيلو” المقام على قرى قضاء نابلس ورام الله، بينما بالترويج للترفيه والشقق الفندقية والخيام الصحراوية في مستوطنة “كفار أدوميم”، يتم إخفاء حقيقة أن هذا الموقع السياحي يأتي على حساب الوجود للتجمع السكني الخان الأحمر.
وبين أنه خلال العام 2018، أظهرت الإحصائيات ورصد “أمنستي”، أن 4 مليون سائح زاروا إسرائيل، 45% منهم زاروا الضفة الغربية المحتلة والمرافق السياحية في المستوطنات التي تدار من قبل جمعيات استيطانية مدعومة من الحكومة الإسرائيلية التي تقدم تسهيلات وإعفاءات للشركات السياحية العالمية التي تشجع السياح بالمستوطنات.
مخططات ومشاريع
شكل مخطط توسيع المشروع السياحي في خربة سيلون، محطة فارقة في المقاومة الشعبية للمزارعين وأصحاب الأرض الأصلانيين، حيث جمدت المحكمة العليا الإسرائيلية المخطط عقب الالتماس الذي قدمته المنظمة الحقوقية الإسرائيلية “عمق شبيه” ومجموعة من سكان قريوت ضد إقامة مشروع استيطاني على مساحة 11 ألف متر مربع، يشمل قاعة للمناسبات، قاعة للمؤتمرات، فندق ومسرح مدرج، مزرعة وغيره، ألزمت المحكمة المبادرين بالإشارة في خريطة الموقع إلى مواضع بناء المباني المذكورة داخل حدود الموقع الأثري.
وعلى الرغم من هذا القرار، دشن المجلس الإقليمي الاستيطاني في “شيلو” وبالتعاون مع الوزارات الحكومية المختلفة في تموز/يوليو العام 2013 مشروع “ميغدال هروئيه”، وفي الظاهر يبدو أن الأمر يدور حول تدشين برج في تلة أثرية، وهي مناسبة هامشية في مشروع الاستيطان في الضفة الغربية، غير أن تواجد قيادات سياسية وعسكرية ووزراء يدل على المدلولات الكثيرة لـ”تل شيلو” في الصراع السياسي على المستوطنات في الضفة.
وأتى الاستثمار في “ميغدال هروئيه” لطموح إدارة الموقع للتغلب على الرواية المسيحية التي تشير الى موقع المسكن في إحدى الكنائس البيزنطية في التلة، وتجذير الرواية اليهودية في المكان، فهناك مجموعة تعتبر “تل شيلو” موقعا ذا أهمية دينية خاصة، وهم المسيحيون المتمسكون بدينهم، وفي الغالب المسيحيون الإنجيليون، من الولايات المتحدة، أوروبا وكوريا، حيث يزوره سنويا عشرات الآلف.
صراعات ومعتقدات
واستعرض عالم الآثار في جمعية “عمق شبيه”، يوني مزراحي، صراع الروايات على خربة سيلون والذي يعكس الصراع السياسي المتواصل على الأرض، وتحول الموقع الأثري إلى جزء من مستوطنة “شيلو” التي توسعت على أراضي الفلسطينيين، لافتا إلى أنه في العام 2011 توجهت الحكومة والمجالس الاستيطانية الإقليمية إلى تطوير السياحة بالمستوطنات.
وخلال مرافقته للصحافيين في الجولة التي نظمتها “أمنستي”، كشف النقاب عن سعي الحكومة الإسرائيلية إلى جذب الإسرائيليين للموقع الأثري في “تل شيلو”، الذي يدار من قبل جمعية “مشكان شيلو – مركز بحث وتطوير مهد الاستيطان في أرض إسرائيل”، إلى جانب تعزيز السياحة بالمستوطنات على حساب الوجود الفلسطيني وطمس روايته وآثاره.
ويعتبر “تل شيلو”، وفقا لمزراحي، “واحدا من المواقع الأثرية السياحية الأكثر استثمارا في الضفة الغربية، حيث يزوره سنويا 60 ألفا من الإسرائيليين، كما أن المجلس الإقليمي الاستيطاني “بنيامين” يصف الموقع حجرا أساسيا لتطوير السياحة لتدعيم وتوسيع المشروع الاستيطاني في المنطقة، كما أن ذلك يعتبر جزءا أساسيا في سياسة الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو”.
ولا ينكر مزراحي الوجود الفلسطيني في المنطقة والأطماع الاستيطانية في المكان، لكنه بدا مشككا في وجود الحضارة العربية والإسلامية في سرده وشرحه حين سلط الضوء على الموقع كمان مقدس للمسيحيين، واسترسل في الشرح والترويج للرواية والجذور اليهودية في المكان الذي يعتبر حجر الأساس لأسباط بني إسرائيل، بحسب مزراحي، الذي بدا مقتنعا بالوجود اليهودي في المكان والرواية التلمودية التي تعتمد على وجود خيمة “أوهل هميشكان” قبل أكثر من 2000 عام خصصت لتقديم القرابين قبيل الصعود إلى الهيكل المزعوم.
يهدف التطوير الاستيطاني تحت غطاء السياحة، يقول مزراحي: “إلى جانب شطب الوجود الفلسطيني وتحويل التل إلى مركز مؤتمرات، نشاطات وسياحة تستقبل 5 آلاف زائر يوميا بهدف تعزيز وتقوية المستوطنات والتواجد الإسرائيلي في المنطقة بواسطة تطوير وتوسيع السياحة لأرض التوراة، مثلما تروج الجمعيات الاستيطانية التي تغيب في الخرائط الإرشادية حتى القرى وكبرى المدن الفلسطينية، كما أنها لا تستوقف عند المواقع الأثرية وحقيقتها”.