كثيرا ما تطرق كاتب هذه السطور، في هذه المساحة، إلى دلالة انضواء أتباع الحاخام المقتول مئير كهانا ضمن حزب إسرائيلي رسمي باسم “قوة يهودية”، الحزب الذي سعى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أخيرًا لضمّه إلى تحالف “البيت اليهودي” اليمينيّ الذي يشمل تيارات الصهيونية الدينية.
وكهانا هو مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، وعصابة كاخ الفاشية، المحظورة بحسب القانون الإسرائيلي، وشغل منصب نائب في الكنيست الحادي عشر، وفي عام 1988، تم شطب قائمته الانتخابية، ومنعها من خوض الانتخابات الإسرائيلية العامة بشبهة أنها “عنصرية”.
في إطار ذلك التطرّق، استشهدتُ بدراسة أكاديمية إسرائيلية نُشرت عام 2002، وخلصت إلى الاستنتاج بأن جذور العنصرية الشاطّة التي يتبناها كهانا عميقةٌ في أحشاء المجتمع الإسرائيلي، وأن التطرّف اليمينيّ لا يُعتبر مسألةً شاذّة في ممارسة الساسة الصهاينة، على اختلاف تلاوينهم. وعمليًا قبل عام 1948، نشطت في فلسطين تياراتٌ قومويةٌ، برز في مقدمها التيّار التنقيحي (بزعامة زئيف جابوتنسكي)، وتأثرت أجزاء منها بفكر الفاشية في أوروبا، وأعاد احتلال 1967 تمهيد الأرضيّة لـ”اشتداد عودها”، وتقدّمها إلى مركز الصدارة، وكذلك لظهور مزيدٍ منها، على غرار أحزاب “هتحيا” و”تسومت” و”موليدت” المنحلّة، وأيضًا عصابة كاخ. واستندت الدراسة إلى استطلاع للرأي العام أظهر وجود نسب تأييد لأفكار كاخ المتوحشة (منها تشجيع تهجير فلسطينيي 48، وشرعنة شنّ هجوم عليهم بعد وقوع عمليات مقاومة)، في أوساط ناخبي جميع الأحزاب اليهودية، بما في ذلك التي تؤطّر نفسها في خانة الوسط أو اليسار، مثل حزب ميرتس.
ولا تجوز قراءة دلالة خطوة احتضان نتنياهو حزب “قوة يهودية” في سياق علاقة إسرائيل بالفلسطينيين عامة، وفلسطينيي الداخل خاصة فقط، إنما أيضًا ينبغي التوقف عند ما تعنيه داخل علاقات القوة الإسرائيلية الداخلية، فحين يرفع هذا الحزب شعار “كهانا حيّ أو على حقّ”، فالمقصود ليس تعصّبه القومي وعنصريته تجاه الخارج، إنما أيضًا سعيه إلى إقامة دولة شريعة يهودية ليس فيها مكان للعربيّ أساسًا، لكن أيضًا لا مكان حتى لليهوديّ العلماني والدنيوي والإنساني والنقدي، بل ينبغي أن تكون دولة يهودية لليهود التقليديين، أشبه بغيتو إرادي يقوم على استعلاء قومي ذي أسسٍ قديمة جدًا، وعلى مضامين مشتقّة من نظرية العرق اليهودية.
منذ عدة أعوام، يدأب مثقفون إسرائيليون نقديون كثيرون على تكرار رؤيا إشعياء: صِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ، في إلماح إلى كارثة مُحقّقة آخذة بالاقتراب، رويدًا رويدًا.
ولعلّ الأكثر حدّة من بينهم هو الرئيس السابق للكنيست والوكالة اليهوديّة، أبراهام بورغ، الذي يؤكد أن اليهودية المعاصرة تُعاني من مشكلةٍ بنيويةٍ تُعدّ مصيبة ثلاثية الرأس؛ فهي تنوس بين دولةٍ حديثةٍ ادعت السعي إلى بناء تنظيم قومي علماني وعقلاني وفاعل، وبين أدوات شرائعية لم تجر ملاءمتها للواقع الجديد، ولذا تنظر إلى شؤون الدولة الراهنة وتعالجها بأدوات الشتات والخراب، المتقادمة البالية. وفي القطب الثالث، يقف جمهور يهودي ربما يسافر في أيام السبت، ويشاهد بعض الأفلام الإباحية، ويثير الصخب في كل مكان، لكنه تقليديّ كليًّا من ناحية دينيّة، فهو يقبّل “المزوزاه” بالجملة (“المزوزاه” رقّ صغير يُكتب عليه إصحاحان من سفر التثنية، وتُكتب على غلافه كلمة “شدي”، وهي الأحرف الأولى من الكلمات العبريّة “حامي أبواب إسرائيل”، ويعلّق على الجانب الأيمن من عضادات أبواب غرف المنزل)، ويعلّق في العنق خيطًا أحمر ضد حسد الموتى، ويعلّق الحُجُب وصور القدّيسين على كل حائط، ويؤمن بأن دسّ وريقة في حائط المبكى (البُراق) سيغيّر مصيره حقًا. وثمّة درجة من الإيمان ومخافة الرب لديه، ولا يودّ رؤية علماني خالص هنا. وبرأي بورغ، إذا ما أضيفت إلى هذا كله كراهيةٌ بنيويةٌ متأصلة للعربي، تشكّل استمرارًا للمخاوف والكراهية التي كانت بين صفوف اليهود تجاه الأغيار الذين عاشوا بين ظهرانيهم آلاف السنوات، وتبحث لها عن ذرائع ومبرّرات توراتية، ترتسم وصفة كاملة للكارثة الروحية التي ستحلّ بـ”دولة اليهود الحالية”!
(العربي الجديد)