ميخائيل سفارد
في الطابق السابع في مبنى وزارة الدفاع في تل أبيب يجلس المستشار القانوني لجهاز الأمن هو ومساعدوه.
قبل نحو سنة ونصف السنة عمل المستشار القانوني ومساعدوه على كتابة رأي قانوني في موضوع وكأنه تم أخذه من اختبار في قوانين الملكية: هل يُسمح للإدارة المدنية بناء حي لمستوطنين (“مبان متعددة الطوابق للسكن والاستخدام الجماعي”)، فوق المحلات الفلسطينية في سوق الجملة في الخليل، رغم أن أصحاب المحلات يعارضون ذلك؟ هل هذا الرأي للمستشار القانوني في جهاز الأمن نص على أنه ليس هناك فقط ما يمنع البناء في هذا الموقع، بل من أجل حفر الأساسات من المسموح هدم المحلات وإعادة بنائها، وكل ذلك بدون موافقة أصحابها الفلسطينيين.
خلال سنة ونصف أخفت وزارة الدفاع هذا الإبداع القانوني الذي كتب في الكرياه، وكأن الأمر يتعلق بمخططات هندسية للمفاعل النووي في ديمونة، وفي الوقت الحالي تم تحرير فقط المبادئ العامة لها بفضل تصميم حركة “السلام الآن” وحركة “من اجل حرية المعلومات”، اللتين قدمتا التماساً على هذا الأمر. قرأت وثيقة مبادئ الرأي التي أخرجت من الظلام، واكتشفت مرة أخرى أن أشعة الشمس يمكن أن تعتم، لكن أحيانا هي بالأساس تكشف في أي مزبلة نحن نعيش.
في هذا المجال فان مبادئ الرأي للخبير كتبت بلغة قانونية جافة، تعتبر بالنسبة لإنسان عادي وصفة للتثاؤب والنوم العميق.
ولكن بصفتي قارئا خبيرا في المجال فقد طورت مجسات تشخص العفن والرائحة الكريهة في فرع قانوني على الأغلب يختفي بشكل جيد بين الأحرف – قوانين ارتكاب الظلم – وفي السطور الأولى شممت رائحته النتنة. خلق الاستمرار في قراءة النص رائحة كريهة سيطرت على أنفي وأحرقت عيني وقلبي.
وثيقة رأي الخبير التي عنوانها “البناء في سوق الجملة في الخليل” ربما تناولت مسألة محددة ومقلصة، لكن أسلوبها ومقاربتها هي أمور تميز أحد أبرز الفنون القانونية التي تطورت هنا في العقود الأخيرة: قانون عام نقي من القيم.
في السنة الماضية شاركت في مناظرة في إطار استكمال النيابة العامة مع المساعد في حينه لوزيرة العدل، المحامي غيل برينغر، الذي تم تعيينه من اجل ترويض النيابة العامة وإيجاد مرشحين محافظين ويمينيين للقضاء.
في المناظرة أوضح برينغر أنه حسب رؤيته (ورؤية الوزيرة) فان العلاقة بين الحكومة والمدعي العامين يجب أن تكون بالضبط مثل علاقة المحامي مع الزبون في القطاع الخاص.
رسالته التي صيغت بلغته هي “السياسيون يقررون وأنتم تنفذون”. هذه الرسالة أطلقها في قاعة مليئة بالمدعين العامين المهانين. وماذا عن مصالح الجمهور، من سيهتم بها؟ السياسيون هم الخبراء الأعلى في المصلحة العامة، قال. وبسبب ذلك تم انتخابنا. وماذا عن الدفاع عن الأقلية؟ سألت. لكنه أظهر نظرة زجاجية أمام من لا يعرف هذا المفهوم.
المدعون العامون ربما لم يرغبوا في سماع أقواله، لكن من مسافة سنة يمكن القول إن غالبيتهم وافقوا على رأي برينغر.
ولكن كيف يسير ذلك بالفعل؟ كيف يقوم دفاع خاضع بمحو المبادئ القانونية للعدالة والمساواة؟ كيف يقفز هذا عن سلطة القانون كمدافع عن القيم ويقدس بدلا منها “الحكم”، أي سلطة الحاكم؟
وعودة إلى الخليل. هي عاصمة الأبرتهايد الإسرائيلي، المكان الذي توقفت فيه حياة ربع مليون فلسطيني من اجل بناء مستوطنة لـ 800 إسرائيلي – يهودي. المنشأة مدار الحديث ملاصقة للمستوطنة التي تسمى حي أبونا ابراهيم. بنيت المحلات فيها في عهد الحكم الأردني على أراض كانت بملكية اليهود حتى العام 1948، وتم تأجيرها حسب قوانين الايجار المحمية لبلدية الخليل. البلدية قامت بتأجير هذه المحلات لفلسطينيين أداروا في المكان سوق جملة للخضار نابض بالحياة للمزروعات.
بعد احتلال العام في 1967 استمرت الادارة المدنية بتأجير المحلات لبلدية الخليل، ولكن بعد مذبحة باروخ غولدشتاين ضد المصلين المسلمين في الحرم الابراهيمي تم اغلاق السوق بأمر عسكري، والذريعة كانت حماية المستوطنين. هذا أمر منطقي، أليس كذلك؟ ورغم أن هذا الامر كان يجب أن يكون بشكل مؤقت، ورغم أنه في اتفاق الخليل الذي وقع عليه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في 1997، إسرائيل وعدت بفتح السوق من جديد، إلا أن الامر تم تمديده مرة تلو الاخرى وهو ما زال ساريا حتى الآن. وقد حدث أنه اضافة الى قتل الـ 29 مصل، فقد نجح غولدشتاين بمساعدة الجيش والمستشارين القانونيين في تدمير السوق، حيث أن اصحاب المحلات فيها لا يسمح لهم بالعودة اليها منذ 25 سنة.
خلال هذه السنين قام مستوطنو الخليل باقتحام هذه المحلات عدة مرات، وتم إخلاؤهم فقط بعد صراعات قانونية استمرت سنوات، بأمر من المحكمة العليا. عقود من عدم الاستخدام واقتحام المستوطنين وإخلائهم، تركت البصمات على المباني التي وضعها زاد سوءاً.
هذه هي الخلفية لمطالبة المستوطنين أن يقيموا في المكان حيا جديدا. وهذه هي الخلفية لقرار المستوى السياسي، الذي بدقة شريرة، أمر “بالسماح بالبناء فوق محلات السوق”. هل فهمتم؟ البناء لن يتم في المنشأة نفسها، بل “فوق منشأة السوق”. بالضبط مثل الكافتيريا في طبريا.
ولكن تبين أن قوانين الطبيعة النيوتنية لا تسمح بالبناء من أعلى إلى اسفل، كما قال “قصاصو الأثر”، لذلك فان البناء “فوق منشأة السوق” يحتاج إلى حفر الأساسات وهدم المحلات. هناك خط يربط بين الاحتلال والمذبحة في الحرم الإبراهيمي وأمر إغلاق السوق وقرار هدم المحلات من اجل بناء حي استيطاني جديد فيه. هل هناك مثال أكثر وضوحا على الحجة في التوراة “قتلت وتريد أن ترث”.
هذه هي الخلفية التي أعرفها لقرار المستوى السياسي، لكن من يقرأ مبادئ وثيقة الرأي للمستشار القانوني في جهاز الأمن، لن يجد هذه الخلفية. ذاك الرأي القانوني استهدف تطبيق المبدأ الأسمى لقانون الأساس: الحكم – السياسيون يقررون وأنتم تنفذون. لذلك اضطرت الوثيقة الى التحول الى سلالة غريبة مبادئها تهبط على مدينة الآباء من المريخ مباشرة، وتجتث الأسئلة القانونية من الواقع الذي ولدت فيه. في مبادئ الرأي القانوني لا يوجد ابرتهايد، وليس فيها سادة يتمتعون بجميع الحقوق، وليس فيها رعايا تم تجريدهم من الحقوق واضطروا إلى أن يعيشوا تحت نظام فصل استغلالي وقمعي ومهين. في الواقع، لا يوجد في الوثيقة أي احتلال بتاتا. ولا يوجد ظلم متواصل لتخريب الحياة العامة بناء على طلب حفنة من رعايا ايديولوجية تفوق اليهودية، الذين تحركوا عبر السنين من الهامش السياسي الإسرائيلي إلى وسطه.
بهذه الطريقة حول المستشارون القانونيون في جهاز الأمن مدينة الخليل الى كوبنهاغن. في هانس يوجد سكان. فهل لارس مسموح له البناء فوقها؟ حسنا، سيد غوستاف، السكن المحمي لا يسري على “عمق الارض” ولا حتى على “السماء العالية”. بناء على ذلك، لا يوجد أي مانع قانوني للبناء فوق المحل والحفر تحته. إن إعطاء الحق للارس لا يمس فقط السكن المحمي لهانس، بل يحافظ عليه أيضا.
شكرا يا دكتور! سؤال آخر إذا سمحت لي: لأسباب مختلفة محل هانس مهمل وآيل للسقوط. فهل مسموح للارس أن يهدمه وأن يحفر اساسات واعادة بناء مبنى كامل مع محل جديد، على فرض أن هانس يعارض ذلك؟ هذا سؤال مهم، سيد غوستاف. اعتقد أنه يمكن الهدم وبناء كل شيء من جديد. صحيح أن الأمر يقتضي عدم استخدام هانس لمحله لفترة معينة، لكنك قلت لي إنه أصلا غائب عنه لأسباب مختلفة. صحيح؟
ربما أنه في حالة هانس ولارس فان الرأي القانوني للمستشارين القانونيين في وزارة الدفاع غير هستيري تماما، لكننا لسنا في كوبنهاغن. وتجاهل الفرق في القوة مفهوم، من تمييز ممأسس استمر سنوات ومن منحى استغلالي متواصل، هو وصفة للظلم وحتى الجريمة.
إن تطبيق مبادئ “طبيعية” على وضع غير طبيعي تماما، هو المقاربة التي أدت بالقانونيين في وزارة الدفاع الى الاستنتاج أنه يمكن بناء حي للمستوطنين فوق محلات الفلسطينيين الممنوعين من الدخول اليها. الرأي القانوني القادم سيحدد بصورة مؤكدة أنه لا يمكن السماح للفلسطينيين بالعودة الى محلاتهم لأن هذا الامر يعرض أمن مستوطني الحي الذي بني فوقها للخطر. وهذا ما أراد السياسيون أن يحققوه.
هكذا كف محامو وزارة الدفاع عن خدمة الفكرة السامية لسلطة القانون، وبدأوا في خدمة الفكرة القبيحة لسلطة بوساطة القانون. القانون لم يعد نظاما للمعايير التي تستهدف خلق شروط مثالية للناس من اجل تطبيق الامكانية الكامنة لديهم، بل هو وسيلة سيطرة وتحقيق إرادة النظام الحاكم. القانون مثل البندقية، هذا هو الجزيء الذي بوساطته يبني القانونيون الجرائم. الرأي القانوني للمستشار القانوني في وزارة الدفاع انتقل الى القدس وهو بانتظار المصادقة عليه من قبل نائب المستشار القانوني للحكومة في شؤون القانون المدني، المحامي ايرز كامنتس. هل يستطيع شخص ما إعارة كامنتس كراسة تلخيصية لدرس في فقه القانون؟.
______________________
* عن “هآرتس”