جورج كرزم
تشير المعطيات والحقائق الصارخة على الأرض إلى أنه في ظل السلطة الفلسطينية التي أفرزتها الاتفاقيات الاستعمارية مع الاحتلال، “ازدهر” الاستيطان الاستعماري وتعاظم عددُ المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية. ففي أواسط الثمانينيات بلغ عدد المستعمرات في الضفة نحو 120، وارتفع عددها حاليا إلى 150، بالإضافة إلى ما يسمى البؤر الاستيطانية التي بلغ عددها 116 (عوض 2019). مساحة المستعمرات ارتفعت من نحو 120 ألف دونم في أواسط التسعينيات، إلى أكثر من 541 ألف دونم في نهاية عام 2018 (عوض 2019)، أي بزيادة مقدارها 350%.
وفي مثل هكذا واقع كولونيالي، بلغ عدد المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية (ومعظمهم من المتدينين والمتعصبين أيديولوجيا والمتطرفين) نحو 700 ألف (بما في ذلك القدس الشرقية)، أي ازداد عددهم بأكثر من ثلاثة أضعاف عما كان لدى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 (حين لم يتجاوز 220 ألف بمن فيهم مستوطنو القدس الشرقية)، فتجاوز عددهم ما كان عشية احتلال معظم مناطق فلسطين عام 1948، حين بلغ عددهم آنذاك نحو 650 ألفاً (Statistical Abstract of Israel, No 64, 2013)، فاحتلوا 78% من مساحة فلسطين (التاريخية)؛ علما أن مساحة الضفة التي يستوطنها هذا العدد المتضخم من المستعمرين نحو 21% من إجمالي مساحة فلسطين (التاريخية). وحاليا تشكل نسبة المستوطنين نحو 21% من إجمالي سكان الضفة الغربية (الأونكتاد 2015: 18)؛ بينما وصلت نسبة المستوطنين في القدس الشرقية (محافظة القدس) تحديدا، أكثر من 41% من إجمالي السكان (عوض 2019).
علاوة على ذلك، التبعية الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل بنيوية وعضوية، وتتجسد من خلال استئثار إسرائيل بنحو 70% من الواردات الفلسطينية، واستيعابها لأكثر من 80% من صادرات الضفة والقطاع، علما أن أكثر من 77% من إجمالي العجز التجاري الفلسطيني هو مع إسرائيل ((الأونكتاد، مصدر سابق: 26).
المنتجات الغذائية والزراعية الإسرائيلية (بما في ذلك من المستعمرات) تهيمن على الأسواق الفلسطينية. ومن المعروف أن المنتجات الإسرائيلية التي لا تلبي معايير التصدير تسوق في الأسواق الفلسطينية وتضرب المنتجين الفلسطينيين العاجزين عن منافستها، لأنها مدعومة وأسعارها أقل من المنتجات الفلسطينية. هذا الإغراق الإسرائيلي المدعوم للسوق الفلسطيني، يواجه بمنتجات فلسطينية مكشوفة لا يتوفر لها الحد الأدنى من الدعم المادي والحماية، علما أن السلطة الفلسطينية التي تكبلها الاتفاقات والارتباطات الاستعمارية مع الاحتلال، عاجزة عن حماية المزارعين والمنتجين الفلسطينيين لمواجهة المنافسة الإسرائيلية المدمّرة وتقلبات السوق.
حقائق صارخة
خلال عشرات السنين الأخيرة، اتسعت في الضفة الغربية النشاطات والمشاريع الزراعية الكولونيالية الإسرائيلية بشكل كبير ومتسارع، وبخاصة في الأغوار الفلسطينية وفي المناطق الجبلية بمحاذاة المستعمرات وحولها؛ حيث نجد، بشكل خاص، أشجار الفاكهة والزيتون وكروم العنب.
مساحات كبيرة في الأغوار مزروعة إسرائيليا بالنخيل ومحاصيل الدفيئات والمحاصيل الحقلية. وبالطبع، ينهب المحتلون موارد مائية ضخمة لزراعاتهم في الأغوار وفي المناطق الشمالية للبحر الميت. وتبلغ حاليا المساحة المزروعة في المستعمرات نحو 110 آلاف دونم (عوض 2019)، إنتاجيتها أعلى بكثير من إنتاجية المساحات الفلسطينية، بسبب وفرة المياه والموارد الفلسطينية المنهوبة لصالح الزراعة الصهيونية في المستعمرات التي تنتج نسباً كبيرة من المحاصيل التي تصدّرها إسرائيل إلى أوروبا، مثل الرمان واللوز والزيتون والتمور (الأونكتاد، مصدر سابق: 21).
واللافت أن الزراعات العضوية اتسعت كثيرا في المستعمرات، فشملت الخضار والتفاح والتمور والبيض وألبان الماعز وغيرها من المنتجات العضوية التي تسوق إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا، باعتبارها أنتجت في اسرائيل وليس في مستعمرات الضفة (الأونكتاد، مصدر سابق: 21). وتقدر قيمة السلع والمنتجات الزراعية التي تصدرها شركات ومصانع المستعمرات إلى الاتحاد الأوروبي فقط بـ4.5 مليار دولار (الصباغ 2018: 79).
وبحسب التقسيمات الكولونيالية للضفة الغربية (المثبتة في اتفاقيات استعمارية وقعت عليها أطراف فلسطينية رسمية)، فإن 61% من مساحة الأخيرة تقع تحت السيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية المطلقة (ما يسمى المنطقة “ج”)، وتتمتع هذه المنطقة تحديدا بـ 63% من موارد الضفة الزراعية وأخصب أراضيها وأفضلها جودة للرعي؛ علما أن الفلسطينيين “ممنوعون” إسرائيليا من استخدام معظم الأراضي الرعوية في مختلف أنحاء الضفة، بسبب التوسع الاستيطاني والمناطق العسكرية والجدار الكولونيالي (الأونكتاد، مصدر سابق: 17).
يضاف إلى ذلك، أن نحو ثلاثة أرباع مساحة ما يسمى المنطقة “ج” مخصصة إسرائيليا للمستعمرات ولتوسعها المستقبلي وللمناطق العسكرية والتدريبات و”للمحميات الطبيعية” التي غالبا ما تشكل غطاءً للنشاطات الاستعمارية والعسكرية الاسرائيلية. كما “يحظر” الاحتلال أعمال البناء بكافة أشكالها في 70% من “المنطقة ج”، ولا “يسمح” بالنشاط العمراني سوى في مساحة لا تزيد عن 1% من ذات المنطقة؛ بينما يفرض قيودا تعجيزية على البناء في ما تبقى من مساحة، أي 29% (الأونكتاد، مصدر سابق: 17). وبالطبع، الزراعة الفلسطينية في تلك المنطقة هشة وغير مستقرة وغير تنافسية، في ظل القيود الاسرائيلية المشددة واشتراط الحصول على تصاريح (شبه مستحيلة) من الاحتلال لإقامة أي منشأة زراعية أو حفر آبار.
إعادة إنتاج الواقع الاستعماري قبل عام 1948
المفارقة المأساوية المثيرة، أن الواقع الاقتصادي والزراعي الكولونيالي الحالي في الضفة والقطاع يعد تكراراً مشابها إلى حد كبير للواقع الكولونيالي الذي ساد في فلسطين قبل عام 1948. فالتحالف الكولونيالي الأنجلو-الصهيوني آنذاك، دمر بشكل منهجي، الاقتصاد الزراعي الفلسطيني التقليدي، من خلال تسريب الأراضي الزراعية الفلسطينية للمستوطنين الصهاينة، وبخاصة من خلال بعض الملاكين العرب الكبار.
كما سيطر المشروع الصهيوني (قبل عام 1948)، بشكل منظم وتدريجي، على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة التي اقتُلِع الفلاحون الفلسطينيون منها، لإنشاء المستعمرات عليها، وهذه الأخيرة اتسمت، في المجال الزراعي، بتنوع الأنماط الاقتصادية-الإنتاجية-الاجتماعية؛ من قبيل “الكيبوتس” و”الموشاف” وغيرها من التعاونيات الزراعية الهادفة إلى مواجهة مقاومة السكان الفلسطينيين الأصليين. لهذا الغرض، وعبر استفادته من المناخ الدولي لصالحه، اعتمد المشروع الصهيوني على تدفق رؤوس الأموال الصهيونية لتعزيز الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين والاستيطان الصهيوني وشراء الأراضي الزراعية الخصبة. كما خطط للاستيلاء على أهم الفروع الاقتصادية الفلسطينية آنذاك، وفي طليعتها فرع الحمضيات (الصباغ، مصدر سابق: 27).
وكما يحدث حاليا، عمد الصهاينة منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إلى الترويج للمنتجات الصهيونية وإغراق السوق الفلسطيني بها، وفي ذات الوقت، قاطعوا المنتجات الفلسطينية التي مُنِعَت من دخول السوق الاستيطاني الصهيوني. وبالتوازي، وبهدف تدمير الاقتصاد الزراعي الفلسطيني ومنع تطوره وبالتالي منافسته للسلع الصهيونية، فرضت سلطات الاستعمار البريطاني ضرائب ورسوم باهظة على الأراضي الفلسطينية والإنتاج الزراعي الفلسطيني، وأغرقت السوق الفلسطيني بالمحاصيل المستوردة، ومنعت إصدار تصاريح للصناعات الزراعية وللصادرات الفلسطينية.
إذن، الواقع الاستعماري النهبوي اليوم الذي هَشَّمَ ويهشم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، ليس سوى إعادة إنتاج، أشد إحكاما، للواقع الاستعماري الذي ساد قبل عام 1948. ورغم ذلك، لم يقرأ الكثيرون تاريخ الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بل إن البعض قرأه، لكنه لم يفهم المقروء، ولم يتعظ من عبر تاريخ وجغرافية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولم يتعلم أساليب وفنون مقاومة الحالة الكولونيالية البشعة في فلسطين؛ فارتضى أن يكون وكيلا لسلطات الاحتلال ومتعاقدا من الباطن أو علنا معها.
وما أشبه الحاضر بالأمس الاستعماري: فالعامل الأساسي الذي أدى إلى إفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحولهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الإسرائيلي، بعيدا عن آماكن سكنهم، أو إلى أُجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل- العامل الأساسي لذلك هو نهب الاحتلال لأراضيهم ومواردهم الزراعية وبالتالي تحطيم الزراعة الفلسطينية. بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف الفلسطيني ليس نتيجة بطالة عانت منها اليد العاملة الزراعية، ما يؤدي غالبا الى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل كيد عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في العديد من بلدان “العالم الثالث”، بل إن هذا الفائض أفرزته بشكل مباشر عملية تحطيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، وإضعاف البرجوازية الزراعية بسبب المصادرات الواسعة للأراضي ونهب الموارد المائية. وبالتالي، لعبت هذه العملية الأخيرة دورا أساسيا في الولادة غير الطبيعية والمشوهة للعمال الفلسطينيين، وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني.
وفي المقابل، أتاح الاحتلال للشريحة الفلسطينية الوسيطة (الكومبرادور) بأن تتوسع وتهيمن، ومنحها التسهيلات اللازمة للعب دور المروج لسلعه ومنتجاته الزراعية في الأسواق الفلسطينية.
أما الأمس الاستعماري الأنجلو-صهيوني (قبل عام 1948)، فيعد النسخة الأصلية غير المنقحة لما ورد سابقا حول الواقع الاستعماري الحالي؛ إذ أن هجرة الفلاحين الفلسطينيين من الريف إلى المدينة، وبالتالي توسع الطبقة العاملة الفلسطينية آنذاك، نتج بسبب تسريب الأراضي الزراعية إلى المستعمرين الصهاينة الذين اقتلعوا الفلاحين من أراضيهم وأرغموهم على التحول إلى عمال غير مهنيين.
مشهد زراعي سوداوي
تؤكد المعطيات والأرقام حدوث انكماش هائل ومتسارع لمساحات الأراضي الفلسطينية المزروعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليس فقط بسبب السياسات الإسرائيلية المتمثلة في نهب الأراضي والمياه وسائر الموارد الطبيعية، بل أيضا بسبب السياسات الفلسطينية الرسمية والأهلية غير الجذرية تجاه الأرض والإنتاج الغذائي. وفي الواقع، المشهد الزراعي الفلسطيني البائس ازداد سوداوية في السنوات الأخيرة. في عام 1996، على سبيل المثال، أي في أوائل عهد أوسلو، كانت المساحة الزراعية الفلسطينية 1,830,000 دونم (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2010)، فهبطت عام 2011 إلى 932,000 دونم (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2015)، أي أن نسبة الهبوط في المساحات المزروعة خلال خمسة عشر عاما بلغت أكثر من 49%.
الانحدار الصادم حدث في المساحات المزروعة بالمحاصيل الإستراتيجية، مثل المحاصيل الحقلية والخضروات. فعشية أوسلو، وتحديدا عام 1990، قدرت المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقلية في الضفة الغربية وقطاع غزة بـ 625 ألف دونم، والمساحات المزروعة بالخضروات 198 ألف دونم (الأونكتاد، مصدر سابق: 9). بينما في عام 2011، بلغت المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقلية 246 ألف دونم، والمساحات المزروعة بالخضروات 130 ألف دونم (الأونكتاد، مصدر سابق: 9). أي أن نسبة الهبوط في مساحات المحاصيل الحقلية خلال الفترة 1990-2011 تجاوزت 60%، أما نسبة الهبوط في مساحات الخضروات خلال ذات الفترة فتجاوزت 34%. ولو أخذنا في الاعتبار الزيادة السكانية الكبيرة خلال ذات الفترة، يمكننا أن ندرك بأن الهبوط الكبير في المساحات المزروعة إجمالا، وفي مساحات المحاصيل الاستراتيجية الأساسية، يعني بأن تبعيتنا الغذائية للاحتلال وشركاته، خلال عهد السلطة الفلسطينية، قد تعاظمت كثيرا.
ومن المعروف أن للقطاع الزراعي قدرة امتصاصية كامنة للعمالة هي الأكبر من بين جميع القطاعات الاقتصادية، ومع ذلك، فإن استيعاب القطاع الزراعي للعمالة هبط هبوطا حادا من حوالي 32% في بداية الثمانينيات، إلى 10.4% عام 2014 (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2015).
بل إن حصة الزراعة في إجمالي الناتج المحلي انخفضت انخفاضا دراماتيكيا، إذ كانت عشية احتلال عام 1967 أكثر من 50%، لكنها تقلصت إلى نحو 30% في أوائل الثمانينيات (الأونكتاد، مصدر سابق)، فبلغت 3.8% عام 2014 (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2015).
المعطيات والأرقام السابقة تؤكد بأن تبعيتنا الاقتصادية والغذائية لإسرائيل ليس فقط أنها تفاقمت، بل إن انحرافا كبيرا وخطيرا طرأ على انتاج الغذاء المتنوع والمكتفي ذاتيا في الريف الفلسطيني، كما ومنذ التسعينيات، لوحظ حدوث تناقص خطير ومتواصل في نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي (الإنتاج/الاستهلاك).
تسريب التراكم المحلي
لقد تحول المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع استهلاكي، يستهلك معظم غذائه من إسرائيل والخارج،؛ ما يعني تراجعا كبيرا وخطيرا في التراكم الرأسمالي المحلي الذي لا يُدَوَّر استثماره محليا في الانتاج الزراعي أو الصناعي. والغريب أن بعض الاقتصاديين المحليين، لا زالوا يزعمون بأن التسويق الزراعي الفلسطيني هو المشكلة الأكبر، ويعظون بضرورة تحويل الزراعة الفلسطينية إلى زراعة تصديرية، وكأننا نعيش في بلد سيادي مستقل نتحكم في أرضنا وحدودنا وحركة صادراتنا ووارداتنا ورؤوس أموالنا وقوانا البشرية، وليس الاحتلال هو من يعتبر في الواقع “السيد الفعلي” المتحكم في جميع العوامل السابقة.
التركيز على الزراعة التصديرية الأحادية بذريعة وجود فائض متراكم في المحاصيل الفلسطينية، في وقت نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية الاستراتيجية التي تشكل العمود الفقري للسيادة الغذائية؛ فيتم استيراد تلك الاحتياجات من الاحتلال الإسرائيلي أو من الخارج- التركيز على الزراعة التصديرية في ظل هذه المعطيات، وهي (أي الزراعة التصديرية) موجهة عمليا لسد فجوات تصديرية لدى الاحتلال ودول أجنبية أخرى، يعني مزيدا من التحكم الإسرائيلي في عملية إطعامنا وتجويعنا. وفي الحقيقة، الفائض الفلسطيني الناتج (الإنتاج/الاستهلاك) في الضفة والقطاع، هو في بضعة محاصيل قليلة (مثل البندورة والخيار…) تزرع بشكل عشوائي غير مدروس، بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا. بينما نعاني من نقص فادح في المحاصيل الحقلية والعديد من أصناف الخضار والفاكهة، ومعظم المحاصيل الأساسية والاستراتيجية مثل القمح والحبوب والأعلاف وغيرها التي تزرع بكميات محدودة جدا.
وفي الوقت الذي نستهلك معظم احتياجاتنا الغذائية من إسرائيل وشركاتها، فإن بعض الذين يراهنون على الزراعات التصديرية، وكأننا نعيش في بلد حر وذي سيادة، يغيبون حقيقة أن الأخيرة (أي إسرائيل) هي التي تشتري غالبية الصادرات الزراعية الفلسطينية، بل إن جميع الصادرات إلى الأسواق الخارجية لا يمكنها التحرك دون موافقة الاحتلال، لأنها تشحن عبر إسرائيل والموانئ والأراضي التي تسيطر عليها الأخيرة؛ ما يضع مجرد وجود الزراعة الفلسطينية التصديرية و”تنافسيتها” وربحيتها تحت رحمة الاحتلال وسياساته واعتباراته الاقتصادية-الأمنية.
وبحسب الاتفاقات الاستعمارية بين منظمة التحرير الفلسطينية (السلطة الفلسطينية) وسلطات الاحتلال، وبخاصة ما يسمى بروتوكول باريس الاقتصادي (لعام 1994)، تعد مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة اقتصادية وجمركية واحدة مع إسرائيل. لذا، يعمدُ التجار الفلسطينيون، في المستندات الرسمية وبوليصات الشحن المتعلقة بالاستيراد والتصدير، إلى وضع اسم إسرائيل للاستفادة من الاتفاقيات الإسرائيلية التجارية التي تمنح المستوردين تخفيضات جمركية، وبخاصة مع دول الاتحاد الأوروبي وتركيا وغيرها (EUR 1). وحيث أن الضفة الغربية وقطاع غزة تشكلان معا وحدة اقتصادية استعمارية واحدة مع الاحتلال، فالعديد من المستوردين الفلسطينيين الكبار يتمتعون بتسهيلات متعددة، كما زملائهم الإسرائيليين، مثل الحصول على الشهادة الإسرائيلية المسماة 2(ג)(2) (لفظها بالعربية: شْنَيْم غِيمِل شْنَيْم) التي تمنح المستورد إعفاءات مختلفة، مثل الإعفاء من شهادة المواصفات الإسرائيلية الرسمية، أو وسم المنتجات باللغة العبرية (وزارة الاقتصاد والصناعة الإسرائيلية، 2019).
بمعنى أننا كشعب تحت الاحتلال، حينما نبتعد عن السياق الطبيعي لصراعنا مع المحتل، أي سياق مواجهة الأخير بكافة الوسائل المشروعة دفاعا عن وجودنا وأرضنا، ونتصرف انطلاقا من “الدولة” الوهمية التي لا وجود مؤسسي واقتصادي وأمني وعسكري فعلي ومستقل وسيادي لها على الأرض، وحينما يبتعد إنتاجنا الزراعي عن تغطية الاحتياجات الغذائية-الزراعية المحلية أولا، في سياق اقتصاد المقاومة، ونركز على الأسواق الأجنبية والصادرات الهشة لمراكمة بعض العملات الأجنبية لحفنة من المنتفعين- حينما نفعل كل هذا فإننا نثبت ونعمق إلحاق القطاع الزراعي الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي بعامة، وبالقطاع الزراعي الإسرائيلي بخاصة.
تقديس الربح
في ظل غياب الحماية للمزارعين، بذريعة “السوق الحر” التي تعمل باتجاه واحد وتحديدا من إسرائيل إلى السوق الفلسطيني وليس العكس، وفي ظل السياسات الفلسطينية المحبطة للاستثمار في الأرض والإنتاج الزراعي، وفرض ضريبة الدخل الزراعي والرسوم والضرائب المرتفعة الأخرى (الإفراز والطابو وما إلى ذلك)- في ظل كل ذلك اندفع عدد كبير من المزارعين نحو زراعة التبغ المربحة جدا والمدمرة للتربة وعناصرها الأساسية. وحاليا وصلت المساحة المزروعة بالتبغ في محافظات شمال الضفة الغربية إلى عشرات آلاف الدونمات، على حساب محاصيل البستنة وتلك الحقلية. المساحات الخضراء في مرج ابن عامر (منطقة جنين) الذي يعد من أكبر المساحات الزراعية في الضفة وأكثرها خصوبة، باتت تحمل في ثناياها موتاً للأراضي الزراعية وللتربة، بل وكارثة بيئية وزراعية محتمة بسبب زراعة التبغ التي تهدد بشكل جدي مجرد وجود القطاع الزراعي.
ليس هذا فقط، بل تنامت في السنوات الأخيرة زراعة المخدرات في الضفة الغربية، فوصل عدد مشاتل المخدرات التي تم ضبطها في أنحاء الضفة إلى عشرات المشاتل في الخليل وطولكرم ورام الله والأغوار الشمالية وغيرها، خلال السنتين الأخيرتين، بواقع عشرات آلاف شتلات الماريجوانا تقدر قيمتها بعشرات ملايين الدولارات (آفاق البيئة والتنمية، تشرين أول 2018).
إشاعة فوضى “السوق الحر” التي تقدس الربح وتضعه فوق كل اعتبار، حفزت وتحفز العديد من التجار والمزارعين على زراعة الأعشاب السامة، ابتداء من التبغ وانتهاء بالمخدرات. ولا توجد مؤشرات على احتمالية تناقص هذه الزراعات الخطرة والمدمرة للبيئة والتربة والصحة العامة، وبخاصة المخدرات التي تهدد تماسك النسيج الاجتماعي والأسري. وقد تتفاقم هذه الزراعات في ظل فوضى “السوق الحر” وحرمان المزارعين الفلسطينيين من الدعم والحماية لإنتاجهم، خلافا للمزارعين الإسرائيليين، وبالتالي ضرب المنتجات الفلسطينية وخروجها أحيانا كثيرة من السوق، وتورط عدد كبير من المزارعين في الديون، وتحديدا أولئك الذين يمارسون الزراعات الأحادية الكيميائية، بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، وبخاصة المبيدات والأسمدة الكيميائية والمياه والبذور والأشتال.
التحدي
لذا، فإن المنطق المقاوم السليم لشعب يرزح تحت بساطير الاحتلال يقول بضرورة تشجيع الانتاج الزراعي المنزلي المتنوع والمكتفي ذاتيا والخالي من الأوساخ الكيميائية، فضلا عن إكثار وتعزيز الحيازات الزراعية التي تنتج لغرض تغطية استهلاكها العائلي، علما أن 71% من الحيازات الفلسطينية، على قلتها، استخدمت عام 2011 جل إنتاجها للاستخدام الأسري، مقابل 110 ألف أسرة ريفية اعتمدت على الزراعة مصدرا رئيسيا أو ثانويا للرزق (الأونكتاد، مصدر سابق: 11). فإذا كانت الضفة والقطاع تتمتعان باكتفاء ذاتي نسبي في بعض أصناف الخضار، والتين والعنب ولحوم الدواجن والبيض والعسل، فلا بد أن يرتكز جوهر خططنا الانتاجية المقاومة على تعزيز التوجه القائم على الاكتفاء الذاتي في جميع السلع الغذائية والزراعية الأساسية والإستراتيجية، من محاصيل حقلية وحبوب وأعلاف وخضار وفاكهة وإنتاج حيواني.
وفي مقابل عجزنا الانتاجي المقاوم وتبعيتنا الغذائية للمحتل، فإن الدولة المحتلة (إسرائيل) تنتج معظم الأغذية التي تستهلكها. ناهيك عن المساحات المزروعة في المستعمرات بالضفة الغربية والتي تتجاوز مائة ألف دونم، معظمها زراعات مروية.
وهنا لا بد من تحدي الخنق المفروض احتلاليا على الأراضي والمياه والتسويق، من خلال تشجيع وتحفيز الانتاج الزراعي البيئي المتنوع الذي يتميز بتدني مدخلات الإنتاج (بما في ذلك المياه) وانخفاض تكلفتها، والتكامل مع سائر القطاعات، ومستوى مرتفع من إعادة تدوير مخرجات الإنتاج ورأس المال المتراكم، وارتفاع متوسط الغلة (طن متري لكل دونم) الذي يقاس بمحصلة مجاميع المحاصيل المنوعة والمتداخلة في الدونم الواحد (خلافا للزراعات الأحادية الكيميائية التي ترتكز عملية حساب الغلة فيها على صنف واحد أو صنفين مثلا). وفي المحصلة، تحكمنا بما ننتج ونأكل من غذاء نظيف وصحي؛ بمعنى ممارسة سيادتنا الإنتاجية الوطنية على غذائنا، والتحرر من تحكم الاحتلال في عملية إطعامنا وتجويعنا.
عندئذ سنجد أن متوسط الغلة في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 سيرتفع كثيرا، علما أن متوسط الغلة الفلسطينية حاليا نحو نصف الغلة في الأردن و43% فقط من الغلة الإسرائيلية، رغم أن البيئات الطبيعية والمناخية متشابهة؛ بل واللافت أن الفجوة في الغلة أكثر اتساعا في الضفة منها في قطاع غزة (الأونكتاد، مصدر سابق: 3).
وبالطبع ممارسات وسياسات الاحتلال من حيث نهب الموارد والمياه وتدمير البنية التحتية الزراعية ليست السبب الوحيد للتخلف الزراعي الفلسطيني القائم حاليا، بل توجد أيضا عوامل ذاتية هامة لهذا التخلف تتمثل في افتقارنا إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات إنتاج محلية، وتشجع الناس على العمل الزراعي وتنويع الانتاج الذي يلبي الاحتياجات المحلية بالدرجة الأولى.
نقاط القوة
إن ما يعتبره البعض نقاط ضعف في البنية الزراعية المحلية، يعدُّ، في منظور الاقتصاد الانتاجي المقاوم نقاط قوة. فعلى سبيل المثال، واقع الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية التي يعتبرها الكثيرون مشكلة؛ هي في الواقع ليست بمشكلة، لأنه في الزراعة المقاومة والمعتمدة على الذات، يفضل أصلا العودة إلى الحيازات الصغيرة. وهنا يمكننا التعلم من تجارب الشعوب التي خاضت ثورات ضد الاحتلالات والهيمنة الأجنبية، كما في فيتنام وكوبا على سبيل المثال لا الحصر. ويمكننا إدراك هذه المسألة لو تنبهنا إلى أن أكثر من 80% من الحيازات الفلسطينية في الضفة والقطاع عبارة عن حيازات صغيرة؛ وهي بالتالي مناسبة جدا ونموذجية للأنماط الزراعية العضوية والإيكولوجية المقاومة.
وفي المقابل، روجت الأطراف الفلسطينية الموقعة على الاتفاقيات مع المحتل، ولا تزال تروج، لأكذوبة “السوق الحر” الذي ترجمته، في السياق الفلسطيني، إغراق السوق الفلسطيني بالسلع الغذائية والزراعية الإسرائيلية، حيث فرض الاحتلال ويفرض “تنافسا” قسريا غير متكافئ بالمطلق بين صادراته الزراعية المحمية والمدعومة والمنتجات الفلسطينية المكشوفة والمحرومة من الحماية الوطنية. ويعد هذا الواقع الاقتصادي-السياسي تثبيتا لتوجه الاحتلال التاريخي الهادف إلى سحق المنتجات الفلسطينية الأساسية من خلال منع حمايتها من المنافسة الإسرائيلية والأجنبية.
البديل
أثبتت الوقائع التاريخية الفلسطينية البعيدة والقريبة، والمؤشرات السياسية-الأمنية والاقتصادية الحالية، أن المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني، لن يتخلى عن هيمنته اللصوصية على الأرض والموارد الفلسطينية، وسيواصل تثبيت وجوده واستيطانه، ما دام مشروعا مريحا، بل ومربحا اقتصاديا، وما دام يفرض وجوده بالقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة)، ولا يواجه بمقاومة مدروسة، منظمة ومنهجية، تؤلمه وتخلخل معادلة أرباحه وخسائره الكولونيالية لصالح الخسائر بكافة أشكالها. لذا، لا يستخفنّ أحد بعقولنا، بالقول إن الشعب الفلسطيني سيتمتع يوما ما بالسيادة على أرضه وموارده الطبيعية، من خلال عملية سياسية يتحكم الاحتلال بكل تفاصيلها ومكوناتها.
الحقائق الصلبة على الأرض تؤكد بأن الاحتلال لن يرفع القيود عن القطاعات الانتاجية الفلسطينية وفي مقدمتها الزراعة، ولن يرفع القيود عن الاستثمار الخاص والعام، ولن يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى مياههم وأراضيهم، ولن يتخلى عن سياسة الإغلاق في الضفة الغربية، ولن يرفع الحصار عن غزة.
الوضع الطبيعي لشعب تحت الاحتلال، يفترض وجود مقاومة منظمة للأخير بكافة أشكالها، بما في ذلك المقاومة الاقتصادية التي تتجلى في بعض جوانبها بالتربية التنموية المقاومة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، والحماية الشعبية لصغار المزارعين واستهلاك منتجاتهم، ومقاطعة منتجات الاحتلال. فضلا عن المبادرة لإنشاء شبكات صغيرة ومتوسطة الحجم لجمع مياه الأمطار والفيضانات والينابيع. ولا بد أيضا من تشجيع إنشاء التعاونيات الإنتاجية، من خلال استخلاص الدروس من تجربة العمل التعاوني الفلسطيني وتجارب التعاونيات الناجحة في مختلف أنحاء العالم.
في ظل اقتصاد زراعي فلسطيني يواجه منذ عقود طويلة عملية إسرائيلية منهجية لتحطيم مقوماته، وسوق فلسطيني محاصر ومخنوق لا ينطبق عليه ما يُسمى بقوانين السوق المتعارف عليها، فالأوْلى أن يحصل الفلاحون الفلسطينيون على الدعم المادي والمالي، وإعفاء منتجاتهم من الضرائب بكافة أنواعها، ومنع استيراد السلع الزراعية الإسرائيلية والأجنبية المحمية والمنافسة والتي تتمتع بميزات تسويقية غير عادلة؛ وبالتالي حماية المنتجين المحليين من الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية.
خاص بآفاق البيئة والتنمية