مقدمة: أسئلة تحتاج لإجابات جديدة في ظروف باعثة على الشك
بدأ عدد من الباحثين الإسرائيليين في إعادة النظر بتأريخ تأسيس “الكيان” الذي شيدته الصهيونية على الأساطير، إذ ساهم العديد من الباحثين في نهاية ثمانينيات القرن الماضي في تحمّل مسؤوليّة تبديدها وإزاحة النقاب عن الحقيقة المرّة. وقد أُطلقت تسمية “المؤرخين الإسرائيليين الجدد”، في ثمانينيات القرن الماضي، على مجموعة من المؤرخين الذين قدّموا رواية جديدة لتاريخ ولادة إسرائيل الدموية، تناقض الرواية المتداولة، مستفيدين من توافر مكوّنات أرشيف حرب 1948، “فأسفر ذلك عن موجة من الموضوعات والأطروحات المعدّلة، ورسائل الدكتوراه والدراسات، وكان في مقدمة هؤلاء بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه، وعلى الرغم من اختلافاتهم المنهجية وميولهم الأيديولوجية، تجمعهم يافطة المؤرخين الجدد؛ فقام عدد من هؤلاء بالكتابة بشكل متعاطف مع الضحايا الفلسطينيين لقصة ’نجاح الصهيونية’”[1]. كما كانوا “متحدِّين صورة إسرائيل عن نفسها، باعتبارها القلّة في مواجهة الكثرة، مثل داود في مواجهة جوليات” [2].
شمس الدين الكيلاني
وبالتساوق مع هذه الرؤية النقديّة الجديدة، جرى تداول مفهوم “ما بعد الصهيونية”، الذي دعا إلى إعادة النظر بالأسس الأيديولوجية الصهيونية التي قامت عليها إسرائيل. وكان بيني موريس، في طليعة ما سمي المؤرخين الجدد في إسرائيل، وضم هذا التيار إيلان بابيه، وتوم سيغيف، وزئيف ستيل، وسيمحا فلابان وهو من أوائل “المؤرخين الجدد”، وآفي شلايم وغيرهم. ويبدو أنّ إيلان بابيه والأميركي نورمان فنكلشتاين وشلومو ساند، قد كسروا كل ارتباط يشدُّهم إلى رموز الصهيونية وآثارها. وكان مصطلح المؤرخين الجدد سابقًا زمنيًا لتيار “ما بعد الصهيونية”، ولعل نقد ما بعد الحداثة عالميًّا قد أسهم في إيقاظ الوعي الذاتي لدى الباحث النقدي الإسرائيلي تجاه زيف الأساطير المتعلقة بولادة الكيان الإسرائيلي، وقد ساهم هذا التيار بدوره في “ما بعد الصهيونية”، وتبدو طبيعة الصلة الزمنيّة والموضوعاتيّة بين المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع النقديين من جهة، والجماعات التي يمكن أن يُطلق عليها مصطلح “ما بعد الصهيونية” من جهة أخرى، هي أن الثانية، أي “ما بعد الصهيونية”، أوسع نطاقًا من الأولى، إلا أنه لا يمكن فهم أيّ منهما دون فهم الآخر المتصل به، كما يمكن الربط بين تطور أفكار المؤرخين الجدد وتيار “ما بعد الصهيونية”، والمراجعات النظرية والفكرية المنسوبة إليه، والتي تدور في مجملها حول نبذ الكثير من مكونات الصهيونية التقليدية، مثل تفرّد القومية اليهودية، ونقاء الشعب اليهودي، وسياسة التوسّع واعتماد الدين معيارًا للانتساب إلى الدولة[3].
ويتجاوز نقد “ما بعد الصهيونية” خطابات اليسار الصهيوني وجماعة حركة “السلام الآن”، فهو تيار عمِل باتجاه الانتقاص من التيارات اليسارية الصهيونية وحركة “السلام الآن”، فكان المنتمون إليه أكثر راديكاليّة من الأخيرين؛ “إذ أنهم يعتقدون أن المشكلة تتعلق بالوجود الإسرائيلي المطلق، وأن الحركة الصهيونية حركة كولونياليّة عنصرية، كونها استولت على أراضي الآخرين بالقوّة، وظلَّت تمارس القمع”[4].
وقد حدث أول وأوسع هجوم على الرواية الرسمية عام 1987، من خلال كتاب سمحا فلابان، “مولد إسرائيل: حقائق وأساطير”، وشهدت تلك السنة أيضًا، صدور كتاب بيني موريس، “مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947 – 1949″، والذي وصف فيه فرار الفلسطينيين على هيئة موجات متلاحقة، مدينة بعد أخرى، وقرية بعد أخرى، وهو يقدّم العديد من الأمثلة التي تعبّر عن الحرب النفسية والتّهديد والطرد القسري والفظائع التي ارتكبتها القوات المسلحة الخاصة بالدولة اليهودية الوليدة[5]. فبدأ الحديث عن “التأريخ الجديد”، عقب مقال بيني موريس؛ أستاذ التاريخ في جامعة بن غوريون، والذي جاء تحت عنوان “التاريخ الجديد: إسرائيل تواجه ماضيها”. وهذه الأبحاث شكّلت مع زميليه، إيلان بابيه وآفي شلايم، ثم كتابات شلومو ساند، التي أعادت النظر في الرواية الإسرائيلية الرسمية لتاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، كما ساهمت الحرب على لبنان عام 1982، ومذابح صبرا وشاتيلا، ومن بعدها الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، في تغذية الشكوك حول المشروع الصهيوني ومستقبله وآلية عمل الكيان الإسرائيلي وطابعها الكولونيالي، سلوكًا وأيديولوجيا، وهو ما أعطى دفعة قوية لجهود “المؤرخين الجدد”، وأثارت نقاشًا واسعًا بين المثقفين على الجانبين، وعلى الرغم من مظاهر القوة العسكرية التي لا تدوم لأحد، وعدم قدرة إسرائيل على استيعاب هزيمة واحدة، وحقيقة أنّ إسرائيل مُستَمدَّة من الضعف الحالي للعرب، فإن هناك إحساسًا عميًقا لدى الإسرائيليين، على الأقل من النخبة الفطنة منهم، يشير إلى أنّ إسرائيل تواجه مأزقًا تاريخيًا لا يفارقها، لا في واقعها الراهن، ولا في الماضي من ذكريات مأزومة، حين تستحضر تجربة غزوات الفرنجة (1096-1296م)، على سبيل مقارنتها بتجربتها. أما في الحاضر “فإن الصهيونية فقدت الكثير من حيويتها وأهميتها في معالجة القضايا المهمة التي تواجه المجتمع، داخليًا وخارجيًا؛ فالتوليفات التي قامت عليها الصهيونية بين متناقضات كثيرة ’الخصوصية القومية – العالمية – التقليد – التحديث – الدين – العلمانية’ لم تستطع أن تصمد بعد تحقيق النجاحات في العقدين الأولين من قيام الدولة، وتحوّلت الحركات الأيديولوجية إلى أحزاب تتنافس”[6].
سنحاول في هذه الورقة (الأولى من أصل ثلاث)، التعرُّف إلى تلك التيارات النقدية من خلال مؤلفات شلومو ساند كنموذج لهذا التيار متنوّع المشارب. كما سنحاول التعرّف عن قرب إلى تصوّراته عن حاضر إسرائيل، وأسئلته الكثيفة والحرجة عن مستقبلها كنموذج يمثل التيار النقدي لإسرائيل، والذي ما زال محصورًا في مجموعة من المثقفين، ولم يتحول إلى تيار فكري – سياسي مؤثر إلى الآن، وربما يرتبط مستقبله وسعة تأثيره وضيقه بالتغيّرات التي يمكن أن تحدث في الاجتماع السياسي الإسرائيلي، ورغبته بالمصالحة والمقاربة العادلة للحقوق الفلسطينية والعربية، وأيضًا استجابة العرب للتحدي الصهيوني، الذي يتطلب منهم تعديل ميزان القوى والوحدة، وذلك للدفاع عن مصيرهم ومستقبلهم “فلسطينييّن وعربًا”، وتقديمهم لخطاب ديمقراطي يمكّنهم من اختراق المجتمع الإسرائيلي والدولي. ونجد مع ساند نموذجًا مهمًا، هو الأكثر نقدية لتأريخ نشأة إسرائيل، ككيان استعماري كولونيالي، فكان الأكثر جدية في البحث والتقصّي عن حقائق الصراع العربي – الصهيوني، الذي رسم تاريخنا المعاصر، وكانت فلسطين، بأرضها وشعبها، خط تقاطع النيران في هذا التاريخ المديد.
ساند من أصول بولندية، والده يساري، استطاع الإفلات من قبضة النازية والهولوكوست، نقلته أسرته إلى يافا عام 1948 في فلسطين، فنشأ وترعرع فيها، وعمل أستاذًا في جامعة تل أبيب، وكتب ثلاثة كتب، في موضوع يدور حوله لكشف زيف الرواية/ الأسطورة الصهيونية عن أمة يهودية مزعومة (ومؤخرًا أصدر كتاب “عرق متخيّل – تاريخ قصير لرُهاب اليهود”، بالعبرية). ويدور كتابه الثاني حول تعرية مُتخيّلهم عن “أرض إسرائيل”، فيما يدور الكتاب الثالث حول علاقته التي انقطعت، ليس مع تلك الأساطير فحسب، بل مع اليهودية نفسها، معلنًا خروجه من قفصها. فقضى سنوات شبابه في النبش “دون كلل” عن وقائع التاريخ التي تدحض دون مواربة أقاويل الصهيونية.
أولًا – اختراع “الشعب اليهودي”
صدر كتابه هذا في عام 2008، وكرّسه لكشف زيف الادّعاء بوجود “الشعب اليهودي”، وبأن “الوطن” فلسطين، إنما يعود إلى “الشعب اليهودي والقومية اليهودية”، وأن هناك تطابقًا بين القومية والدين، بالإضافة إلى أن الفلسطينيين أتوا بالصدفة، فيما صلة اليهود بـ”أرض إسرائيل” تقاس بآلاف السنين! وتألّف كتابه من مقدمة وتوطئة وخمسة فصول، يستغرق فيها في التنقيب التاريخي، ويتبعها في محاولة قراءة واقع “الدولة” وما يحيل إلى احتمالات خطرة، إذا لم تتجه إلى حل ديمقراطي للمسألة الفلسطينية – الإسرائيلية.
يسرد في المقدمة ثلاث حكايات عن أبيه وأمه وأخته وعن صديقية العربيين، من بينهما الشاعر محمود درويش، على أمل أن تشكّل “غلافًا ملائمًا لنص نقدي يسعى إلى الوقوف على المصادر التاريخية وعلى تداعيات ممارسات سياسة الهويات في إسرائيل”[7]. ويتعرض لتجربة غربة وعيه وصدمته من مجتمعه اليهودي، والتعقيدات التي تحيط هويات الأفراد في مواجهة هوية زائفة، وكيف خدم في الجيش أثناء حرب حزيران 1967، زار أثناءها صديقه الشاعر الكبير محمود درويش في منزله في حيفا وكان قد خرج للتوّ من سجون الاحتلال، فعبَّر الجندي شلومو لصديقه درويش عن قرفه من صرخات النصر التي تعالت في إسرائيل بعد الحرب وعن يأسه وشعوره بالاستلاب من سيل تلك الدماء وعن رغبته في مغادرة البلد. وفي اليوم التالي، أيقظ محمود درويش صديقه الجندي على قصيدته “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”، جاء فيها:
يفهم – قال لي – أن الوطن
أن أحتسي قهوة أمي
أن أعود في المساء…
سألته والأرض؟
قال: لا أعرفها[8]
وفعلًا، غادر الجندي البلد بعد أن غادرها الشاعر، وعاد الاثنان بعد اتفاق أوسلو، ولكن السلطات الإسرائيلية سمحت للجندي، ولم تسمح للشاعر بالدخول إلى يافا وحيفا إلّا للحظات خاطفة[9].
قدَّم ساند تحت عنوان “ذاكرة مغروسة” الصورة النمطية للذاكرة اليهودية التي غرستها الصهيونية في أذهان اليهود، فغدت عقبة معرفية، يصفها بأنّها “طبقات لذاكرة جماعية، عليه أن يستهلكها قبل أن يُصبح باحثًا مهنيًا… تخلق عالمًا مُتخيّلًا… تغرس في ذاكرته ’حقائق’ لا يمكن التفكير إلّا من خلالها”[10]. فأدخلوا في وعيه “بأنه ينحدر من جذور شعب يهودي عريق… فلم تنفع دروس التاريخ في الجامعة، ولا حتى تَحوّله لمؤرخ، في تفتيت ذاكرة الماضي هذه”[11]. وقد لُقِّن الأسطورة التي تقول بوجود “شعب يهودي منذ نزلت التوراة في سيناء، ويتحد كل اليهود من نسله، وإنه خرج من مصر واحتل ’أرض إسرائيل’ التي وُعِد بها. وقامت مملكة داوود وسليمان، وأن هذا الشعب أُجلي مرة أيام البابليين، ومرة ثانية عام 70 بخراب الهيكل للمرة الثانية. وتشتت في شتى الأصقاع وبقي محافظًا على وحدته الدينية والإثنية… وكانت أراضي الشتات تخصُّه وحده فقط، ولا تخصُّ هؤلاء ’القلة’ الذين وصلوا إليها بمحض الصدفة… لذلك كانت حروب ’العائدين’ حروبًا عادلة، أما مقاومة السكان المحليين العنيفة فقد كانت آثمة”[12].
ثم قام جيل في القرن التاسع عشر “باقتطاف شظايا ذاكرة دينية يهودية ومسيحية، استخرجوا منها بواسطة خيال خصب شجرة نسب متواصلة لـ’الشعب اليهودي’”[13]. لم يصب تلك التوليفية المزيّفة الشكّ إلّا مع سجالات ’المؤرخين الجدد’ في التسعينيّات، لكن بقي هذا السجال – بحسب ساند – محدود التأثير في الوعي. ولقد ختم الفصل الأول بدراسة غنية للغاية حول الأبحاث المتعلقة بالقومية، مارًّا على ستيوارت ميل والدراسات الماركسية، ومعرجًا على هبسباوم، ليقف مطولًا عند أندرسن وغورز وغرامشي، معطيًا للتاريخ وللحداثة والثقافة وللمثقف دورها في القومية، ناقدًا نظريات الصهاينة الفقيرة وغير المجدية.
عمل ساند بعدها على دحض فكرة الأصل الواحد لليهود، مستهلًا ذلك بقول سبينوزا (1677) إنّه “يبدو واضحًا وضوح الشمس، أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عدة”[14]. ثم تعرّض لنقد وتمحيص كتابات المؤرخين الصهاينة: هاينريخ غريتس وموشيه هس الصهيوني، وأيضًا شمعون دوفنوف (1941)، الذي كرَّس حياته لبعث ما سُمِّي الاستمرارية التاريخية في الوجود اليهودي[15]. فقد أمَّمَ هؤلاء الـ”تناخ” (أسفار خمسة من التوراة)، وحولوه “إلى كتاب تاريخي موثوق”[16]. ولاحظ ساند أنه في السنوات الأولى لقيام إسرائيل أضحى الـ”تناخ” أيقونة مركزية في تصميم وهندسة الوطنية “المتجددة”. وأُرغم موظفو الدولة على عبرنة أسمائهم”[17]. غير أن نتائج فورة حفريات علم الآثار بعد حرب 1967 خيبت آمالهم التي لم تطابق وتخيلًا الـ”تناخ”! عندها، اقترح الباحثون التعامل مع قصص الآباء هذه على أنها مجموعة قصصيّة اخترعها باحثون لاهوتيون أكفّاء[18]. وقد قضت الاستنتاجات العلمية لديهم بأنّه “إذا كان ثمة كيان سياسي قام في يهودا في القرن العاشر قبل الميلاد، فإن هذا الكيان هو مملكة قبلية صغيرة، لم يتعدَّ حجم القدس فيها حجم بلدة محصَّنة، ومن المحتمل أن تكون قد تطورت في هذا الكيان الصغير عائلة سُمِّيت آل داوود”[19]. وأنه لم يكن هناك على الإطلاق مملكة موحدة وعظيمة، وأنه لم تكن لدى الملك سليمان قصور فخمة وفسيحة ليُسكِن فيها سبعمائة زوجة”[20].
وعلى طريقته في نقض فكرة “الدولة اليهودية”، أقدم ساند على تقويض فكرة “المنفى – الشتات اليهودي” ضد ما تضمنته وثيقة الاستقلال الإسرائيلية، “عندما أُجلي الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، لم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة”، وضد قول شموئيل عغنون (1970) إن “الشعب اليهودي أُجلي في أثر خراب الهيكل سنة 70 للميلاد… وفي قلبه أمل… في وطنه القديم”[21]. فيرد ساند: “الرومانيّون لم يقوموا قط بنفي الشعوب… وهذه السياسة الشاذة لم تطبَّق في الشرق الأوسط”[22].
فرّق ساند بين الانتماء لليهودية والإثنية؛ فاليهودية لم تنحصر في إثنية بعينها. فرجع إلى الأناجيل ليلتقط إشارات واسعة إلى عدم ثبات اليهودية في جنس واحد، فيُذكِّر بسفر زكريا، “فتأتي شعوبٌ كثيرة وأمم قوية ليطلبوا ربَّ الجنود في أورشليم، وليترضّوا وجه الرب”؛ (زكريا، الإصحاح الثامن)”[23]. وتحدث عن تهوُّد مملكة الحشمونائيم (القرن الثاني ق.م)، ومملكة حديب في القرن الثاني الميلادي شمال الهلال الخصيب، فكانت مملكة حوديب، هي الكيان السياسي اليهودي الأول خارج يهودا ولم تكن الأخيرة[24]. واستوطن اليهود في الحجاز؛ في تهامة ويثرب وخيبر، وكان التبشير باليهودية في اليمن قد ساهم في القرون الأولى للميلاد بانتشار التهويد في اليمن “مملكة حمير”[25]، ويأتي بمثال تهويد أهل مملكة الخزر، ما بين القرنين السادس والحادي عشر، بين جورجيا ونهر الفولغا، والذين ذكرهم الرحالة ابن فضلان والجغرافي الإطخري والمؤرخ المسعودي[26]. لهذا سعى الصهاينة إلى طمس الخزر من ذاكرة التاريخ[27]، وسجلت أفريقيا الشمالية إحدى نجاحات التهويد[28]. ولم يبدأ التهويد بالتراجع، إلَّا مع بدء التضييق على اليهودية، وذلك بعد وصول المسيحية للسلطة مع الإمبراطور قسطنطين (ت 272)، في القرن الرابع[29]. فكانت اليهودية عابرة للأمم ولم تخصّ قومًا بحدِّ ذاته.
وانصبّ جهد ساند في الفصلين الثالث والرابع لتفكيك الأسطورة الصهيونية عن شجرة أنساب اليهود المتسلسل لـ”الشعب اليهودي”، واتهمه نقاده الصهاينة بأنه حاول فصم علاقة اليهود بـ”أرض الأجداد” وجرّدهم من حقهم التاريخي، فرد عليهم بالقول إنه “لم يكن يتصور أن يكون هناك في مطلع القرن 21، من يُبرِّر إقامة دولة إسرائيل بالادعاء أنّها ’أرض الأجداد’”[30].
وشرح ساند موضوع كتابه بالقول: حاولت أن أشرح في كتابي “اختراع الشعب اليهودي” كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. وبيّنتُ أن هذه فكرة خاطئة ومجرّد خرافة، تمّ استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي، فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي – الاجتماعي، هو مصطلحٌ يُطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة مثل؛ اللغة والأدب والموسيقى وما إلى ذلك من الشروط الثقافية الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية”[31].
ويذهب إلى أنه إذا كان القوميون في أوروبا قد نسجوا أيديولوجياهم القومية على مقاس الجماعة التي تحدثوا عنها وعلى مقاس المجال/ الأرض التي يعيشون عليها، فالصهيونية تعيَّن عليها اختراع أسطورتها القومية واختراع الشعب نفسه تحت اسم “الشعب اليهودي”، وأضيفت إليه “الدولة اليهودية”[32]. إلى جانب ذلك، لاحظ أن هذه القومية “اليهودية”، التي وُلدت في شرقي أوروبا “المتخلّف” قياسًا لغربيّ أوروبا، كان “نجاحها” مشروطًا بمساندة “الأغيار”، فظلَّت الصهيونية ما بين العام 1897؛ منذ تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تيارًا هزيلًا للغاية في صفوف الجاليات اليهودية في العالم[33]. فلجأت إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لكل يهود العالم. واستدعت الميثة التاريخية لتبني أيديولوجية “علمية” ملائمة؛ “فالوعد الإلهي لم يعد كافيًا لدعاة القومية العلمانيين. وإذا كان العدل لا يكمن في الميتافيزيقا الدينية، فعليه أن يكون مخبوءًا في البيولوجيا”[34]. وقد قال فيلسوفهم بيرنباوم: “ليست اللغة أو الثقافة هي التي يمكن أن تفسِّر نشوء القوميات، وإنما فقط البيولوجيا”[35]. وأكد ماكس نورداو، رجل هرتسل المخلص، على الأمر نفسه، إذ قال “إن اليهود يشكلون بوضوح، شعبًا ذا أصل بيولوجي متجانس… تشده رابطة الدم”[36]. وأصبح العرق والأعراق النقية لدى جابوتنسكي، مصطلحين علميين[37]. وقد استهدفت تلك البيولوجيا اليهودية تشجيع نزعة الانعزال عن الآخرين، بغية الحفاظ على الهوية القديمة[38]، وللتطهير العرقي لاحقًا. وهذا التفسير يصبح مقبولًا عند حديث ساند عن طرد الفلسطينيين أثناء حرب 1948[39].
ولقد لاحظ ساند، بمرارة، أن المجموعة الصهيونية مارست سياسة الإقصاء العرقي والديني تجاه الفلسطينيين، السكان الأصليين، تدعمها ثقافة استبعادية معادية للغير، وتكرست هذه النزعة وتلك السياسة بالقانون الدستوري، الذي ترك ثغرة يمكن استغلالها نسبيًا لخوض انتخابات الكنيست، بعد أن أقرَّت المحكمة العليا قانونًا للكنيست يمنع “المشاركة في انتخابات الكنيست لأية قائمة، إذا وجد في أهدافها أو أعمالها ما يشير إلى “1- نفي كيان دولة إسرائيل بصفتها دولة الشعب اليهودي. 2- نفي الطابع الديمقراطي للدولة. 3- التحريض على العنصرية”[40]. غير أن هذه الثغرة لم تسمح بتمرير فصل المواطنة عن الدين. فيشير ساند إلى أن “الفلسطينيين -الإسرائيليين الذين يشكلون خُمس سكان إسرائيل، يعلنون جهارًا أن الدولة ليست لهم، وإنما تعود لشعب آخر غالبيته ما زالت تعيش وراء البحار”، كما أنّ الكاتب أنطوان شماس خاطب الإسرائيلية محاججًا: “تعالوا لنكون جميعًا إسرائيليين متعددي الثقافات، نُبلور هوية عليا قومية لا تمحو الهويات الأصلية، بل تتوجّه نحو مستقبل إسرائيلي يسوده التعايش بين اليهود والعرب مواطني الدولة”، لكن أ. ب. يهوشوع، أحد أبرز الكتاب الإسرائيليين، وممثل بارز لليسار الصهيوني، رفض فورًا هذه الدعوة مؤكدًا: إسرائيل يجب أن تبقى دولة الشعب اليهودي المشتت، ولا يجوز أن تصبح لجميع مواطنيها[41].
لذا، انحسرت الآمال بدولة المواطنة الواحدة لأصحاب الهويات المتعددة، تحت ضغط شعار “تهويد الدولة”، كما “تمسك الصهيونيون بضرورة بقاء إسرائيل دولة حصرية ووحيدة لجميع اليهود. وفي المقابل، أيّد تيار ’ما بعد الصهيونية’، الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل في حدود 1967، وتحوّل إسرائيل إلى دولة جميع مواطنيها”[42]. ويبدو أن ساند يميل إلى هذا الخيار الإستراتيجي.
وأعقب ذلك في عام 1992 سن قانون يحمل نصًّا قاطعًا، بأنّ إسرائيل “دولة ديمقراطية يهودية”[43]. وهو عنوان متناقض في دلالته المفهومية، وجُنَّدت، أثناء ذلك، لدعم هذا التوجُّه، حملة من مثقفي الصهيونية للدفاع عن هذا الشعار نفسه “يهودية الدولة”، معتبرين ذلك لا يمس الديمقراطية[44]؛ فيرد ساند مهاجمًا اليمين الصهيوني قائلًا إن “الجمهورية الفرنسية لا ترى نفسها بأية حال دولة مواطنيها الكاثوليك فقط، وإنما أيضًا بشكل صريح دولة سكانها الفرنسيين اليهود والبروتستانت وحتى الفرنسيين المسلمين”[45].
فيتمعَّن ساند في تلك الميول الإقصائية في إسرائيل، وتأثيرها على “الديمقراطية”، لسبر المظاهر المعيقة للديمقراطية وحرية التنوع الثقافي، فيجد من هذه المظاهر، أن “القومية اليهودية التي تسيطر على المجتمع الإسرائيلي ليست هوية مفتوحة ومتضمنة تطوق وتفضِّل وتعزل الأغلبية عن الأقلية، وتؤكد أن الدولة هي ملك الأغلبية فقط”[46]. بينما الصحيح، هو أنّ “الهوية العليا الرسمية التي تشكِّل أساسًا موجهًا للثقافة القومية، ينبغي أن تكون مفتوحة للجميع، أما في إسرائيل، فالوضع معكوس تمامًا، فالامتيازات والحقوق الإضافية مكفولة ومحفوظة للأغلبية اليهودية”[47].
وبناء على تلك المقدمات، يرى ساند، أنه “من الملائم أكثر وصف إسرائيل كـ’إثنوقراطيا’، وإذا شئنا التدقيق، سيكون من الأفضل تعريفها كإثنوقراطية يهودية ذات ملامح ليبرالية، بمعنى دولة ليست مهمتها الرئيسية خدمة (شعب) مدني – متساوٍ، وإنما خدمة (شعب عرقي – إثنوس) بيولوجي ديني – وهمي تمامًا من ناحية تاريخية”[48]، ويحرّكها يقين مثيولوجي للتاريخ، بحكم علاقتها بالجغرافيا بأرض فلسطين، وسيطرت عليهم فكرة التوسع، والاستيطان.
ثانيًا: اختراع “أرض إسرائيل”
يُعتبر هذا الكتاب مكملًا في أهميته وموضوعه لكتابه الأول، ويتألف من مقدّمة للمؤلف للطبعة العربية، وتقديم يتحدث فيه عن وقائع “اختراع أرض إسرائيل”، بالإضافة إلى توطئة “القتل المبتذل، التوق إلى الخلاص واسم المكان”، وخمسة فصول وخاتمة. الأول وعنوانه “إنتاج الأوطان – من أمر بيولوجي إلى مُلك الأمة”، والثاني “الميثيوإقليم – في البدء وعد الله بالأرض”، والثالث “حجّ وصهيونية مسيحيان – بلفور وعد بالأرض”، والرابع “الصهيونية ضد اليهودية – احتلال الحيز الـ’إثني’”. ويتحدّث فيه عن تزوير الصهيونية لليهودية وللتاريخ الفعلي. أمّا الفصل الخامس، فيقدم فيه حكاية رمزية عن العقرب والضفدع، وما يقابلها من تاريخ الصهيونية مع فلسطين والفلسطينيين، أما الخاتمة فعنونها بـ”عن القرية كأمثولة والذكرى عبرة”، وتدور حول قرية “الشيخ مونّس”، التي مُحيت من الوجود وبقيت في الذاكرة، وبُنيَّت جامعة تل أبيب على أنقاضها، فجعل من حكايتها رمزًا صارخًا لما قامت به إسرائيل من تدمير مُتعمَّد لفلسطين؛ قراها ومدنها، ويعود مرة أخرى إلى تجربة استدعائه إلى الجيش واشتراكه في معركة القدس عام 1967، فاستغرب انتقالهم وراء خطوط الحدود، وقال “فزاد إحباطي أكثر عندما علمت أن الآخرين لم يعتبروه خروجًا إلى خارج البلاد، اعتبروا أنفسهم كمن يجتاز حدود دولة إسرائيل من أجل الدخول إلى أرض إسرائيل. فأبونا إبراهيم تجوّل بين الخليل وبيت لحم”، وعندما عبَّر عن امتعاضه قالوا له “إنها أرض أجدادك. فقد آمن رفاقي بأنهم دخلوا إلى مكان كان دومًا لهم”[49]. هذا اليقين الجارف الميتافيزيقي، بأن هذه الأرض التي لم يروها قط هي لهم منذ آلاف السنين، هو ما فهمه القادمون إلى إسرائيل من اليهود؛ فهم الشعب المختار ولهم الأرض المقدسة المختارة. هذا اليقين الأسطوري، هو ما صدم عقل ساند النقدي، وجعله يحفر في ثنايا الجغرافيا والتاريخ ليفكك هذا الوعي المسحور، والذي يسلب صاحبة ويجعله مستعدًا لقتل من يعترض طريق احتلاله لهذه الأرض!
يبرهن ساند في هذا الكتاب على أن الصهيونية هي التي اخترعت أسطورة “أرض إسرائيل”، بالتوافق مع الاختراع الآخر وهو “شعب إسرائيل”! فأكد على أن الصهيونية لم تكن استمرارًا لليهودية، بل كانت نقيضًا لها. فعمل ساند على تفكيك ركام أساطير الصهيونية حول ادعائها بأن ثمة “وطنًا يهوديًا – أرض إسرائيل” يعود إلى “الشعب اليهودي”، وبهذه المقولات الزائفة، مارست الصهيونية غزوها وعدوانها باعتبارها “حربًا وطنية عادلة”، وكما قوّض فكرة “شعب إسرائيل”، فهو يقوّض في هذا الكتاب أسطورة “أرض إسرائيل”. وهو مصطلح ديني في الأساس، والذي حوّلته الصهيونية إلى مفهوم جيو – سياسي، وهو لم يكن شائعًا لدى يهود فلسطين، قبل أن أطلق الرومان اسم فلسطين على يهودا، عقب تمرد اليهود عام 1342 الميلادي، فظهرت في الأدبيات اليهودية عبارة “أرض إسرائيل” كلقب للمكان الأكثر قداسة. ويقول ساند إنه “لم يكن هذا اللقب الجغرافي قوميًّا في تلك الفترة، ولم يكن من الممكن أن يكون كذلك، بل كان مصطلحًا لاهوتيًا – دينيًا. اعتُبر خلال مئات الأعوام بنظر اليهود نقطة انطلاق لبداية الخلاص الغيبي الذي سيحلّ على العالم بقدوم المسيح”[50]. الصهيونية هي من حول هذا المفهوم الديني إلى مفهوم قومي سياسي، حيث استُخدم من قبل الغرب الاستعماري كمشروع كولونيالي استيطاني لحل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب العرب. ولهذا يقول ساند: “ليست الأشواق اليهودية إلى وطنٍ مُتخيل، هي التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل، بل وقبل كل شيء، وبشكل خاص، محنة اليهود هي التي قادت جزءًا منهم إلى فلسطين. .وطالما أن أبواب الهجرة إلى الولايات لم تغلق، فقد تدفق المهاجرون إليها”[51].
ختم كتاب “اختراع أرض إسرائيل” برواية حكاية قرية “الشيخ مونّس”، وكيف محاها ودمرها الاستيطان اليهودي، وأقام جامعة تل أبيب على أنقاضها، لتطوى تلك القرية بالنسيان، إذ يقدّم هذه القرية نموذجًا حيًّا لما فعله الاستيطان بـ”أرض فلسطين – وطن فلسطين”. فيقف الرجل مذهولًا أمام واقعة أن حرم جامعة تل أبيب، أُقيم “على قمة تلة الكركار، مع المحو التدريجي البطيء لقرية الشيخ مونّس”، ويشير مع إحساسه بالألم والصدمة إلى أنه لم يقدِم أيّ من أساتذة التاريخ في جامعة تل أبيب الذين يبلغ عددهم الستين على دراسة “أو تأليف كتاب، أو مقال بحثي عن تاريخ الأرض، حيث استجمعوا رأس مال مجدهم. ولم يُشرف أيٌّ منهم على الذين لا صوت لهم، والذين تم اقتلاعهم وإخفاؤهم عن المكان”[52]، ثم يضع قبالة هذا المحو للذاكرة، مقطعًا من قصيدة محمود درويش: “نحن أيضًا صعدنا إلى الشاحنات/ يسامرنا لمعان الزمرّد في ليل زيتوننا/ ونباح كلاب على قمر عابر فوق برج الكنيسة./ لكننا لم نكن خائفين/ لأن طفولتنا لم تجئ معنا واكتفينا بأغنية: سوف نرجع عما قليل إلى بيتنا/ عندما تفرغ الشاحنات… حمولتها الزائدة”[53].
ويتأمل ساند، بألم، جلافة الذاكرة الصهيونية وعلاقتها بالمكان والزمان وتخفُّفها من النزعة الإنسانية، وهي نفسها شكّلت وأعادت تشكيل الذاكرة اليهودية، وعملت بدأب على توفير “قاعدة أساسية لشرعنة مشروعها الاستيطاني. فأنشأت تلك العقلية السياسية الإسرائيلية القائلة بأن الزمن الفلسطيني ’القصير’، لا يمكن أن يكون ذا قيمة مساوية للزمن اليهودي ’الطويل ’؛ فما وزن شتات ’فلسطين’ الذي استمر لستين أو سبعين عامًا مقابل الشتات ’اليهودي’ الذي استمر لألفي عام؟ وما قيمة حنين فلّاحي الأرض البسطاء وأحفادهم مقابل التوق اليهودي الأبدي؟ وما قيمة مطالبة اللاجئين عديمي المأوى بالملكية مقابل الوعد الإلهي؟”[54]. فقد امتلكت الثقافة الصهيونية خزّانًا من الرغبة المحمومة للتوسع والسيطرة على الأرض، وكان “ضميرها” محصّنًا ضدّ التأثر بآلام من أجبروهم على ترك فلسطين، حيث يروي وقائع إجبار الفلسطينيين على الهروب خلف الحدود، فتندمج فيها طراوة اللغة الأدبية بلغة العلم: “استولى المهاجمون المبتهجون في غضون ساعات قليلة على المكان الذي كانوا يطمعون فيه منذ زمن بعيد. وهكذا تلاشى سكان الشيخ مونِّس من صفحات تاريخ ’أرض إسرائيل’ وأُلقي بهم في مهاوي النسيان”[55]. وقامت على أنقاضها جامعة تل أبيب التي كتب كتابه هذا في داخل جدرانها، فيتذكر أنّ “جزءًا من هذا الكتاب… كان قد كُتِب في واحدة من غرف العمل في هذه الجامعة. والإلهام الأخلاقي لبعض الإستراتيجيات السردية التي اعتمدتها هنا، مصدره تلك الجيرة الغريبة بين الممحيّ والمبني، من ذاك الاحتكاك الذي لا يطاق بين ماضٍ مراوغ وحاضر مُغير وعاصف”[56].
من مشاهد النكبة
ورسم في هذا الكتاب خريطة “النكبة الفلسطينية”، وعنوانها: الاقتلاع من الأرض والقذف خارج الحدود دون شفقه، فبالإضافة إلى “الأحياء العربية في المدن، فإن أكثر من أربعمائة قرية أخرى تم تدميرها ومحوها من ’أرض إسرائيل’ في حرب 1948، ونحو سبعمائة ألف إنسان هُجّروا مع النكبة، وانتُزعت بيوتهم منهم بدون أي مقابل أو تعويض، ولا يزال كثيرون منهم، كما أحفادهم، يعيشون في مخيمات اللاجئين”[57]. وينبّه طلابه إلى الحذر من الروايات التي تصنعها الجماعات حول نفسها وتاريخها، إذ أنّ “كلّ ذاكرة جماعية بهذا القدر أو ذاك، هي نتاج هندسة ثقافية تعديلية، تخضع على الدوام تقريبًا، لاحتياجات الحاضر ومزاجه السائد. ومن عادتي التأكيد بوجه خاص، على أنه عند الحديث عن تاريخ الأمم، فليس الماضي هو من يخلق الحاضر، بل الحاضر القومي هو الذي يعجن الماضي ويصوغه لنفسه”[58].
يختم كتابه بنوع من الحسرة لأنه لم يستطع أن يقوم بشيء، لردّ الظلم والنسيان والخراب وهدر كرامة الغير وذاكرته، ولكنه يعترف ويقول إنّ “أهمّ ما تعلَّمته من جولاتي الثقافية والبحثية، هو أنّ تذكُّر الضحايا الذين ننتجهم نحن والاعتراف بهم، هما، في نهاية المطاف، أكثر أهمية وجدوى للمصالحة الإنسانية وللحياة القِيَميَّة، من التذكير دون توقف بأننا أحفاد ضحايا آخرين في الماضي. إن الذاكرة السخية والشجاعة – حتى لو كانت مشوبة بنزر من التلون – لا تزال تمثِّل شرطًا حاسمًا لأية حضارة متنورة… وكم ينبغي علينا أن نتعلّم، لكي نفهم أن الضحية، لن تسامح أبدًا جلّادًا غير مستعد للاعتراف بالغبن، ويرفض التعويض عنه”[59]. ولكن يُعزّي نفسه بالقول “ليس بمقدور المؤرخ أن يجيب عن هذه المسألة الصعبة. عليه الاكتفاء بالأمل في أن يقدّم كتابه مساهمة، ولو ضئيلة، في بداية التحول”[60].
ثالثًا، كيف لم أعد يهوديا؟
يُعلن ساند، في هذا الكتاب، عن تخليه عن يهوديّته كـ”دين”، وفي الوقت نفسه يعلن عن تمسّكه بجنسيته “انتمائه لدولة إسرائيل”، فينسف بذلك خطاب الهيئة الحاكمة العنصرية، التي تدمج بين الدين والمواطنة. يتألف كتابه من عشرة فصول، تبدأ بمقدمة للمترجم يعقبها بالفصل الأول: البحر في التفاصيل، يبسط دواعيه في التخلي عن الهوية اليهودية الجوهرانية، ويقدِّم نفسه على أنّه إنسان يرى في الإنسان مرجعة ومركز عالمه ولا شيء يمكن أن يغطي على ذلك. وأنه بالإمكان أن يجمع بين أن يكون مواطنًا إسرائيليًا، دون أن يكن يهوديًا “إثنيًا” علمانيًا.
يرى أن خروجه عن اليهودية يستند، بشكل خاص، إلى أن التزوير وعدم الاستقامة والتبجح، والتي أصبحت محفورة بعمق في تعريف اليهودية في دولة إسرائيل، جعَلَت من المتعذر عليه حمل الهوية “اليهودية”[61]، والتي أصبحت تحمل في الممارسة، معنىً مخالفًا للديمقراطية، كما أصبحت ملتصقة بالمعنى العرقي “إثنوس”، أو عرق أبديّ. وفنَّد بصورة صارمة مفهوم اليهودية العلمانية الذي استدعته الصهيونية وسوقته عالميًا. فبالأساس لا توجد “ثقافة يهودية علمانية”، “والأمر المروع أكثر من أي شيء، هو أن العنصريين فيها لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبدًا بوجوب الاعتذار”[62].
ويرى أنه ألّف هذا الكتاب، ليس بسبب سياسة الهويات غير الجوهرانية في دولة إسرائيل، بل لمسألة أخرى، وهي الوقوف في وجه تعريف اليهود الذي استوطن الثقافة الغربية، “فمنذ زمن طويل يراودني شعور بعدم الارتياح إزاء أشكال تعريف اليهودية التي استوطنت في الثقافة الغربية… ولا تزال النظرة إلى اليهود بوصفهم شعبًا عرقيًّا تنتقل خصاله بطريقة وراثية خفية”[63]. ويصل إلى نتيجة مفادها أن “ثمة علاقة وثيقة بين تعريف اليهود كـ’إثنوس’ أو شعب – عرق أبديّ، وبين سياسة دولة إسرائيل حيال مواطنيها. أو حيال جيرانها مسلوبي الحقوق. إن تنمية هوية يهودية جوهرانية، لا دينية، تشجّع على التمسك بمواقف استعراقية ’متمحورة حول العرق’ عنصرية أو شبه عنصرية”[64]. وينوّه إلى أنّ “لكل إنسان هوية ذاتية تتطلب من المحيطين الاعتراف بها، تبلور نفسها من خلال الحوار مع الآخرين، وبلورتها لا تتعلق بمزايا بيولوجية خلقيّة فقط، بل أيضًا بالظروف الاجتماعية”[65]. والهويّة ليست قبّعة يمكنك استبدالها متى شئت، لكن مكوّناتها تتعايش فيما بينها وتتداخل وتكمِّل بعضها البعض. وثمة هويات متقاربة تكمِّل بعضها، وأخرى تقصي بعضها. وقد وفرت الهويات الدينيّة من قبل، تفسيرات للظواهر الاجتماعية والطبيعية، عزَّزت موقف الإنسان المؤمن[66]. ثم برزت القومية خلال القرنين الأخيرين فـ”فدفعت بالملايين إلى الموت دفاعًا عن وطنهم”[67].
ويجيب بالنفي عن سؤال: “إن كانت “ثقافة يهودية علمانية”، فلم يُنتِج أي من المبدعين ذوي الأصول اليهودية “ثقافة علمانية مشتركة لجميع سلالات اليهود، ولا لحتى أغلبيتهم”، “فليس ثمة من نمط حياة يومي محدّد، يوحِّد العلمانيين من أصل يهودي في جميع أنحاء العالم، وليس بالإمكان الجزم، بأن ثمة ثقافة يهودية غير دينية قائمة بالفعل”، ويتابع قائلًا: “لا يجوز حصر الثقافة في الحنين إلى الماضي، أو تذكُّر وحفظ مراسم وشعائر مصدرها الدين، فهذه تشكل نقاط انطلاق لا بأس بها في العملية المعقدة لتعريف أنفسنا، لكنها قد تشكل، أيضًا، أسوارًا قبيحة تفصلنا عن بيئتنا”[68]. فاتضح له من خلال هذه المقدمات، أن هويته اليهودية “تأسست، حتى الآن على ماضٍ ميت فقط، وهي خاوية تمامًا تقريبًا من ناحية الحاضر الحي، الفاعل والمبدع المتجه نحو المستقبل”[69]. ويطرح هنا مثالًا ملفتًا، إذ قال إنّ “ثيودور هرتسل مثلًا، مؤسس الصهيونية… كان يحتفل بعيد الأنوار بواسطة شجرة الميلاد، وأنه لم يختن ابنه، فهل يُفترض أن يُعتبر، على ضوء هذه الممارسات الفريدة، مسيحيًّا أم يهوديًّا؟ وربما كان مسيحيًا بعض الشيء، بينما اضطرته البيئة المعادية إلى تغيير هويته والتحول إلى ’يهودية جديدة’”[70].
ويتعقب تحت عنوان “ألم وزمان طويل”، تاريخ العلاقة التي حكمت اليهودية والمسيحية، ونشأة الانغلاقة، والحرم التي فرضته المسيحية على اليهود بصفتهم قتلة المسيح وأحفاد الإسخريوطي، وفي فصل “مهاجرون ومصابون برهاب اليهود”، يبحث عن الجذور التاريخية لبروز ظاهرة الهجرة اليهودية الكثيفة من أوروبا الشرقية؛ روسيا، الإمبراطورية النمساوية، والمهاد الذي غذَّى النازية من جهة والصهيونية من جهة، ووراءهما التوترات العميقة في شرق أوروبا، والتي دفعت اليهود نحو الغرب والعالم الجديد؛ أميركا، طلبًا للنجاة. ثم بزوغ المسألة اليهوديّة، بالإضافة إلى “الكشف العميق عن مساهمة العنف إبان الحرب العالمية الأولى، ودوره في إتاحة القتل المصنَّع في الحرب العالمية الثانية، ولا يتحقق فقط بفهم سيرورة تبلور أجهزة الدولة النازية وطابعها المميز، بل يحتاج أيضًا إلى تحليل دقيق وصارم لأسباب وأبعاد ارتفاع عتبة الحساسية وتفشي الكراهية نتيجة الكم السكاني الهائل الذي وصل إلى أوروبا الشرقية”[71].
ويعتبر ساند أنّ الصهيونية أكملت الإجهاز على ثقافة الييديش القروسطية، فكان “الاقتلاع والتشرد غربًا، هو الضربة الأولى التي تلقاها الييديش، الذي أخذ يلتئم في أعقاب سيرورات التحديث… وكانت الصدمة الثانية هي الثورة البلشفية التي استخدمت وسائل وإجراءات لخنق ثقافته المتمايزة… أما الضربة الفادحة المميتة الثالثة، فكانت من المجزرة النازية، والضربة الرابعة كانت الصهيونية التي محت وبددت كل ما استطاعت من لغته وأنشطته الثقافية”[72]. ولهذا يصل إلى رأي جازم يقول فيه: “ماتت ثقافة الييديش الغنية منذ زمان بعيد”[73]. فلم تكن الييديش “لغة هرتسل وروتشلد… وأراد الصهيونيون خلق يهودي جديد لا يذكرهم بعالمهم الثقافي الشعبي… فراحوا يستولدون لغة اتصال جديدة ثروتها الأساسية من ’التناخ’ وتهجيتها آرامية – آشورية وليست عبرية… وسمُّوا هذه اللغة خطأ ’عبرية’… رغم أن نبوءة هرتسل افترضت أن لغته الألمانية ستكون لغة الدولة اليهودية[74]”.
وأشار ساند إلى أن هرتسل “اعتبر أن الدولة اليهودية الموعودة تمثل ’رأس حربة الثقافة ضد البربرية’ الآسيوية، وكان قادة المشروع الصهيوني كافة، شركاء في الأيديولوجية الأساسية هذه، من هنا مصدر العلاقة المتصلبة العمياء حيال القرويين الأصليين. فالجزء الأكبر من عرب فلسطين اقتُلع من أرضه… وفرَّ خلال حرب عام 1948، بينما تم حبس مَن بقوا في أماكنهم بعد تأسيس الدولة في حدود حكم عسكري لأعوام طويلة جدًا”[75].
ومع الأيام، أرسى الاشتراكيون القوميون من أوروبا الشرقية، على نحو رئيسي، أُسس إنشاء إسرائيل… “ولكي تبرر الصهيونية استيطانها فلسطين، تعين عليها الاستناد إلى ’التناخ’. وثانيًا، لكي تؤكد ’حقوقها التاريخية’، فرسمت بدلًا من تاريخ الجاليات اليهودية المختلفة، رواية سردية خطية عن شعب عرقي، يزعم بأنه طُرد من وطنه بالقوة، وبأنه ظل يتوق إلى العودة”[76]. وقام الجيش بدور الاندماج الثقافي هذا.
يسأل ساند، من هو اليهودي؟ فيرى أن هذا السؤال صعب لم تستطع الصهيونية الإجابة عليه، ولكن المهم في إسرائيل: هو ألّا تكون عربيًّا. والصهيونية التي عرَّفت اليهود على أنهم “شعب” من أصل واحد، ظلَّت تخشى “ذوبان” اليهود في الأغيار المجاورين، لذا منعت الزواج المدني، وهي التي تُعلن عن نفسها أنّها علمانية، ولم يُسمح إلّا للزواج الديني: فلا يحق لليهودي الزواج بغير اليهودية… ويُعزى هذا التشريع الديني المضاد لليبرالية إلى الشكوك التي تحوم حول الهوية الوطنية العلمانية، وإرادة الحفاظ على نزعة الاستعراق اليهودية؛ فإسرائيل أثنوقراطية صهيونية، شدَّدت “على يهودية الدولة أكثر فأكثر، بدلًا من الاعتراف بهوية تجعل منها بوتقة وعي جمهوري وديمقراطي”[77].
ويشدّد ساند على أنّ ثمة أسباب تجعل من التعصب ميلًا غالبًا، أولها سيطرة شريحة يهودية على الشعب الفلسطيني؛ فالفلسطينيون يقيمون في مناطق الأبرتهايد كتلة ديمغرافية يُنظر إليها على “أنها تشكل خطرًا وتهديدًا”[78]. كما أن “استيراد الروس إلى إسرائيل، جعلهم يعيدون اكتشاف ’يهوديتهم’ عن طريق إبداء عنصرية أشد حيال العرب”[79]. وكذلك قوله إن إسرائيل لا تنتمي “إلى مجموع المواطنين المقيمين فيها، بقدر ما تنتمي إلى أشخاص غير إسرائيليين… مثل بول وولفوتز ومايكل ليفي، أكثر مما هي للعرب ’الذين وُلِد أهلهم وأجدادهم على هذه الأرض’”[80]. فيتساءل ساند باستنكار “ألا يتطابق وضع اليهودي في دولة إسرائيل في القرن الـ21، مع البيض في جنوب الولايات المتحدة في الخمسينات، أو مع الفرنسيين في الجزائر عام 1962؟”[81].
رابعًا: استشراف المصير على سبيل الختام
خصّص ساند صفحات في مؤلفاته لاستشراف الغد، غده هو، وغد إسرائيل/ فلسطين، فهو يعترف ويقول “أنا أعي أنني أعيش في واحد من أكثر المجتمعات القائمة في العالم الغربي عنصرية… فما عاد يُحتمل أكثر فأكثر العيش في مجتمع كهذا… ومع ذلك، لن يكون أقل صعوبة أن أسكن في مكان آخر”. ويتابع القول “أنا إسرائيلي، سواء بصيرورتي اليومية أو بثقافتي الأساسية. ولا أعتز بذلك… حتى أنني في أحيان متقاربة جدًا أخجل بإسرائيل”، وعزاؤه في هذه الحيرة القاتلة هو “أن يكون مواطنًا إسرائيليًّا من دون أن يكون يهوديًا”[82]. يؤكد القول إن “من شبه المؤكد أن الشرق الأوسط الآن، هو المكان الأخطر بالنسبة لأولئك الذين يرون أنفسهم يهودًا”، وحاول ساند استشراف غده وغد إسرائيل عبر قراءة ميول الأمس، فأبدى تشاؤمًا تجاه إسرائيل، فهي تُذكره بالممالك الصليبية، إذ يقول “إنّ مستقبل هذه ’المملكة الصليبية’ الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك”[83]. ويعترف بواقع أن أغلبية المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي، لو سُمح لهم اختيار الولايات المتحدة لاختاروها، وأن 40% من اليهود الإسرائيليين، “يدرسون بصورة جادة الهجرة منها”[84]. وكان قد نبّه الجميع بأنّه “كان يتعيَّن منذ وقت طويل، التحرر من الاحتلال الطويل والملعون الذي يودي بنا إلى التهلكة”.
وينبه ساند إلى خطورة رفض دعاة التوسع وأنصار “أرض إسرائيل الكبرى”، لأيّ اقتراح أو فكرة للاندماج بصورة متساوية مع القاطنين في هذه المناطق “المحتلة”، وأضحى تطهير وطرد قسم من “المحليين”، كما تم في عام 1948، ولكن “حتى لو نجحت إسرائيل في التحرر من مناطق 1967، فإن التناقض البنيوي القائم في حقيقة تعريفها لن يُحل”[85].
ويصل ساند في هذا إلى أنّ هذا التناقض والخراب متأصل، وأن “الخراب كامن في قلب هذا الكيان المغمور بالميثولوجيا، ويبدو له مصيره معلقًا على الهاوية، “فميثولوجيا “الشعب/ العرق” اليهودي التي ترى فيه جسمًا تاريخيًّا مُنع على الدوام، ولذلك يستمر في منع دخول الأجانب إليه، فترتد هذه “الميثولوجيا” إلى نحر دولة إسرائيل، إذ في مقدور هذه الميثولوجيا تقويضها من الداخل؛ فالمحافظة على كيان “إثني” مغلق، وإقصاء ربع سكان مواطني الدولة، يولّدان احتقانًا يمكن أن يتحول إلى شرخ وتصدعات عنيفة، سيكون من الصعب رأبها، لذلك يزداد تصلبًّا في أوساط “عرب 48″، الموقف الرافض لوجود إسرائيل”[86].
من هنا، ينتقد ساند بشدة “التفكير السخيف الذي يفترض أن هذا الجمهور النامي والمتعاظم، سيقبل إلى الأبد بعملية إقصائه من مراكز القوة السياسية والثقافية، هو وهم خطير يشبه تعامي المجتمع الإسرائيلي عن وضعية السيطرة الكولونيالية في الضفة والقطاع”[87]. ويحذِّر مما هو أدهى وأعظم من انفجار الجليل:”إن السيناريو الكارثيّ مثل اندلاع تمرّد في الجليل، وما يمكن أن يجره من قمع دموي، لا يُعد ضربًا من خيال جامح لا أساس له. وإذا تحقق مثل هذا السيناريو، فإنه يمكن أن يشكل تحولًا حاسمًا في تاريخ الوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط”[88]. وينبه اليهوديّ الذي يعيش في دولة ديمقراطية في الغرب إلى ضرورة “ألا يقبل اليوم بأشكال التمييز والإقصاء التي تلف المواطن الفلسطيني – الإسرائيلي، في دولة تعلن صراحة أنها ليست له”، والذي يقود إلى تراجع نسبة الهجرة اليهودية، فـ”الخطاب القومي القديم فقد الكثير من وهجه”. كما أنّ الجاليات اليهودية في طوابقها السفلية “الفقيرة” تميل إلى عملية “الذوبان” والاندماج مع الجار في الوطن، و”من هنا أُخذ أساس القوة الديمغرافية للمؤسسات اليهودية ينسحق ويتآكل على نحو ثابت”، ويُضاف إلى ذلك، أنّ “تأييد الغرب القويّ لإسرائيل لم يعد مكفولًا”[89]. ويحذِّر أخيرًا من كارثة شبيهة بكارثة كوسوفو، فيدعو من وراء ذلك، و”من أجل إنقاذ دولة إسرائيل من ’الثقب الأسود’ الذي انشقّ داخلها، ولأجل تحسين الموقف الهش للمحيط العربي تجاهها، فهناك حاجة لتغييرات في سياسة الهويات اليهودية، بالإضافة إلى تغيير جوهري في كل نسيج العلاقات في الحيز الفلسطيني – الإسرائيلي”[90].
يقف ساند وجِلًا عند محاولته استشراف المستقبل، أو أمام الدعوة لمستقبل مرتجى، فيمتزج لديه الحلم بالخوف، وهو يقول صراحة “في هذه المرحلة التاريخية الراهنة، وكما هو دائمًا، من الصعب فك رموز المستقبل، ولكن ثمة أسبابا كثيرة للخوف منه”[91]. لكنه يعرب عن أمله، ومن أجل نجاح مشروعه “الإنقاذ من الكارثة، ومن الثقب الأسود”، يرى أنّ “المشروع المثالي لحل النزاع المحتدم منذ قرابة المائة عام، هو حفظ الوجود وثيق الصلة إقليميًّا بين اليهود والعرب، والذي يتمثل في قيام دولة ديمقراطية ثنائية القومية، تمتد من البحر الأبيض المتوسط وحتى نهر الأردن”[92]. غير أنّه يستدرك مباشرة، منبهًا إلى العثرات والمخاطر والعقبات، “بيد أنه ليس من الحكمة بمكان، مطالبة الشعب اليهودي – الإسرائيلي، بعد هذا النزاع الدامي والطويل… أن يتحول إلى أقلية في دولته…”؛ وبالمقابل، “فإنه من الواجب أن يكفّوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم… وفي موازاة الأسرلة التي تتضمن ’الآخر’، ينبغي تطوير سياسة ديمقراطية متعددة الثقافات… تمنح، بالإضافة إلى المساواة التامة، إدارة ذاتيّة نوعيّة ومأسسة للفلسطينيين – الإسرائيليين”، ثم يختم هواجسه بسؤال حاسم: “ما هو استعداد المجتمع اليهودي – الإسرائيلي للتخلص من الصورة العميقة التي تُنسَب إلى ’الشعب المختار’، والكف، سواءً باسم تاريخ زائف أو بواسطة بيولوجيا خطيرة، عن تفخيم الذات وإقصاء الآخر من داخله؟” [93].
يعود ساند إلى الموضوع نفسه في كتابه الثاني “اختراع أرض إسرائيل”، مخاطبًا المثقفين العرب لائمًا إيّاهم، لأنهم لم يأخذوا باعتبارهم، أن الاستيطان ليهودي الظالم نجح بالنهاية في “إنتاج شعب جديد على أرض فلسطين: هو الشعب الإسرائيلي… على حساب السكان المحليين، لكن الذَراري الحاليين لهذا الاستيطان غير قادرين على التخلي عن كل أجزاء الإقليم الذي سيطر عليه آباؤهم بالقوة، بل حتى من خلال العمى الأخلاقي”[94]. ويذهب في مقدمته للطبعة العربية لكتابه “اختراع أرض إسرائيل” إلى أنه يعرف أن من الصعوبة بمكان، على من أصابه الظلم ولم يتم تعويضه، أن يقبل باقتراحه، وأنه “يعلم أيضًا، أنه طالما لا يتم تحقيق الاعتراف الإسرائيلي بالمسؤولية عن النكبة والاعتراف بالحق المبدئي للاجئين في ممتلكاتهم المفقودة، فلن نصل إلى تسوية تاريخية حقيقية بين السكان الذين يعيشون في إسرائيل وفي فلسطين”، ويستأنف ملاحظاته بالإشارة إلى أن السير بالتاريخ إلى الوراء سيحمل معه مآسي جديدة، ورغم ذلك “فإنه من الممكن تصحيح الأضرار بقدر الإمكان… ويبدو لي أن انسحاب الجيش الإسرائيلي، وتحقيق الاستقلال الفلسطيني، ومشروع الدولتين، يجب أن يكونا نقطة الانطلاق لبداية الحل في هذا الصراع القاسي”، وهذا لا يهدف، في نظره، إلى “انفصال بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إنني اعتقد بأن اليهود الإسرائيليين الذين يرفضون بشكل قاطع العيش مع العرب، سيكونون مضطرين في نهاية المطاف إلى ترك الشرق الأوسط والذهاب للعيش في باريس أو لندن”[95]. ويعترف في خاتمة تأملاته: “تقودني الحياة المتشابكة جدًا لكلا الطرفين بين البحر والنهر، إلى حلم إقامة كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية، فور بداية عملية السلام والمصالحة، وكلي ثقة بأنه مع الخطوات الأولى لتحقيق السيادة الفلسطينية، سنضطر جميعًا إلى النضال من أجل إقامة مبنى كونفدرالي بين الدولتين المستقلتين”[96].
من مشاهد النكبة
لعلّ ساند في مقاربته الاستشرافية، لم يهمل فكرة إحقاق العدالة والحقوق، لكن تعقيدات المشهد وصعوباته، جعله يميل في حلوله نحو “الممكن” دون أن ينسى “الواجب”. فعلى الرغم من اعترافه أن تهجير الفلسطينيين جريمة، فإنه وقف مترددًا أمام تقديم حلٍّ يُصلح ما مضى، بالاعتراف بحق العودة للفلسطينيين، فإنه لم يُدرك أن القضية الفلسطينية تحمل في ثناياها مظلوميات كثيرة، أكبرها وأكثرها ألمًا هي مظلومية اللاجئين في مخيماتهم. وربّما أنّ إدراكه لعجز الكيان الإسرائيلي لتقبُّل للحلول الديمقراطية التي ينصح بها، ولعدم قدرة هذا الكيان على تقبل الآخر والاعتراف بحقوقه، جعلا ساند يتلعثم في اقتراحه لفكرة قيام دولة ديمقراطية ثنائية القومية، ومن هنا، ختم تطلعه نحو الحل الديمقراطي “الناقص” بالحلم، إذ يقول: “فإذا كان ماضي الأمة، في أساسه وجوهره، هو حلم، فلمَ لا نبدأ بالحلم في مستقبلها من جديد، قبل أن يتحوّل إلى كابوس مفزع؟”[97].
* شمس الدين الكيلاني، باحث سوري في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات
الهوامش والمراجع:
[1] نيل كابلان، الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني: تواريخ متضاربة، ترجمة محمد الشناوي، عماد عواد، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014، ص 400. [2] المصدر نفسه، ص 401 [3] مابعد الصهيونية، ص42 – 43 [4] المصدر نفسه، ص49 [5]، آفي شلايم، إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم وتنقيح وتفنيد، ترجمة ناصر عفيفي، ط1، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013، ص23 – 24 [6]. مابعد الصهيونية، ص 32 [7] شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عياش، مراجعة وتقديم أنطون شلحت، عمّان – الأهلية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – رام الله، 2011، ص 20[8] شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص 29 – 30
[9] ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص22. ماهر الشريف، أسطورة اختراع إسرائيل، رام الله، مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 103، صيف 2015، ص 178
[10] ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص 35
[11] المصدر نفسه، ص 36
[12] المصدر نفسه، ص 38. 39
[13] المصدر نفسه، ص 39 -40
[14] المصدر نفسه، ص 97
[15] المصدر نفسه، ص 126
[16] المصدر نفسه، ص 146
[17] المصدر نفسه، ص 150
[18] المصدر نفسه، ص 158
[19] المصدر نفسه، ص 162
[20] المصدر نفسه، ص 164
[21] المصدر نفسه، ص 178
[22] المصدر نفسه، ص 179
[23] المصدر نفسه، ص 203
[24] المصدر نفسه، ص219
[25] المصدر نفسه، ص 255 – 256
[26] المصدر نفسه، ص 280. 284
[27] المصدر نفسه، ص 305
[28] المصدر نفسه، ص 265
[29] المصدر نفسه، ص 230 – 231
[30] المصدر نفسه، ص 13
[31] شلومو ساند، عن عبد الله صالحي، مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي”: الخرافات الصهيونية تمنع مصالحة الفلسطينيين، العربي الجديد، 5 نيسان/ أبريل 2016
[32] ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص 240 – 242
[33] المصدر نفسه، ص 327
[34] المصدر نفسه، ص 333
[35] المصدر نفسه، ص 334
[36] المصدر نفسه، ص 336
[37] المصدر نفسه، ص 338
[38] المصدر نفسه، ص 344
[39] المصدر نفسه، ص 359
[40] المصدر نفسه ، ص 373
[41] المصدر نفسه، ص 373
[42] -المصدر نفسه، ص374.
[43] المصدر نفسه، ص375.
[44] المصدر نفسه، ص379.
[45] المصدر نفسه، ص379.
[46] المصدر نفسه، ص387 .
[47] المصدر نفسه، ص387. 388.
[48] المصدر نفسه، ص289.
[49] شلومو ساند، اختراع أرض إسرائيل، ص 22
[50] المصدر نفسه، ص 17
[51] المصدر نفسه، ص 18
[52] المصدر نفسه، ص 307
[53] المصدر نفسه، ص 291
[54] المصدر نفسه، ص 304
[55] المصدر نفسه، ص 303-312
[56] المصدر نفسه، ص 292
[57] المصدر نفسه، ص 303
[58] المصدر نفسه، ص 303
[59] المصدر نفسه، ص 311
[60] المصدر نفسه، ص 312
[61] شلومو ساند، كيف لم أعد يهوديًا، ترجمة أنطوان شلحت، الأهلية للتوزيع والنشر – عمّان، ومدار – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – رام الله، 2014، ص 20
[62] أنطوان شلحت، مقدمة كتاب شلومو ساند، كيف لم أعد يهوديًا، ص 12
[63] المصدر نفسه، ص23 – 24
[64] المصدر نفسه، ص 24
[65] المصدر نفسه، ص 28
[66] المصدر نفسه 30.
[67] المصدر نفسه، ص 31
[68] المصدر نفسه، ص 38
[69] المصدر نفسه، ص 39
[70] المصدر نفسه، ص 38
[71] المصدر نفسه، ص 53-54
[72] المصدر نفسه، ص 54
[73] المصدر نفسه، ص 56
[74] المصدر نفسه، ص 59
[75] المصدر نفسه، ص 60
[76] المصدر نفسه، ص 65
[77] المصدر نفسه، ص 93 – 94
[78] المصدر نفسه، ص 94
[79] المصدر نفسه، 94 – 95
[80] المصر نفسه، ص 96
[81] المصدر نفسه، ص 99
[82] المصدر نفسه، ص 108 – 109
[83] المصدر نفسه، ص 124
[84] المصدر نفسه، ص 124
[85] ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص 390
[86] المصدر نفسه، ص 390 – 391
[87] المصدر نفسه، ص 391
[88] المصدر نفسه، ص 391
[89] المصدر نفسه، ص 392 – 393
[90] المصدر نفسه، ص 394
[91] المصدر نفسه، ص 394
[92] المصدر نفسه، ص 396
[93] المصدر نفسه، ص 395. 396
[94] شلومو ساند، اختراع أرض إسرائيل، ص 19
[95] المصدر نفسه، ص 19
[96] -المصدر نفسه، ص 20
[97] ساند، اختراع الشعب اليهودي، ص 396