محمد محسن
ينشط “الصندوق القومي اليهودي”، في هذه الأيام، لتسجيل أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، باسمه، لتكون ملكية هذه الأراضي لليهود فقط، وليس لـ”الدولة”. هذا القرار “المبدئي” أعلن عنه صراحة “الصندوق” خلال شهر فبراير/ شباط الحالي، وهو الاستحواذ على أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة بهدف الاستيطان، ما دفع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية إلى إعلان العزم عن مقاضاة “الصندوق” أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ويرى خبراء في الاستيطان، في مشروع “الصندوق القومي اليهودي”، الذي تجسد بتخصيص مجلسه التنفيذي ميزانية لهذا الغرض، بأنه مرحلة جديدة من شرعنة الاستيطان. ويأتي ذلك في وقت تواصل فيه سلطات الاحتلال سعيها لإغلاق مؤسسات القدس الفلسطينية، بكافة فئاتها، وترحيل القيمين عليها.
سيتم نقل ملكية الأراضي وكتل الاستيطان إلى الصندوق القومي اليهودي، لتصبح الملكية لليهود حصراً
وفي هذا الإطار، يحذر مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس، خليل تفكجي، من التداعيات السياسية لمثل هذا القرار الإسرائيلي، إذ تسعى دولة الاحتلال من خلاله إلى تسجيل تلك الأراضي باسم “الصندوق”. ويعتبر تفكجي في حديث لـ”العربي الجديد” أن “المقصود من تسجيل الأراضي باسم الصندوق القومي اليهودي هو تسجيلها لليهود فقط، وليس ضمّها لأملاك الدولة التي هي لجميع السُكّان، وهو ما حدث في قضية العفولة والناصرة، وما سيحدث لاحقاً في داخل الضفة الغربية”. ويضيف تفكجي أن “هذا يعني أيضاً أن البناء الاستيطاني الذي سيتم (على هذه الأراضي)، سيكون مملوكاً لليهود فقط، حتى ولو صدرت قرارات بشأنه من الحكومة الإسرائيلية أو من المحكمة العليا الإسرائيلية”، لافتاً إلى أن “دخول الصندوق القومي بشكل كامل على الخط خلال الفترة الحالية يعني أن هذه الأملاك التي ستنقل من أملاك الدولة ومن الأملاك الخاصة إلى الصندوق لا يمكن إرجاعها، بل ستشكل عقبة أمام أي تواصل سياسي مستقبلي”.
ويوضح مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس، بشكل مستفيض، طبيعة الخطوة وتداعياتها. ويقدم في هذا الخصوص مثالاً على أن “الجانب الإسرائيلي عندما اشترى أراضي في الأردن، فإن هذه الأراضي تعود للصندوق القومي، ما يعني أنها أراضٍ يهودية في الأردن، وهذه الأراضي التي اشتريت في عام 1925، سواءً في شمال القدس حيث أقيمت عليها مستوطنة (عطروت)، أو في أراضٍ جنوب بيت لحم، المقامة عليها مستوطنة (كفار عتصيون)، هي أملاك يهودية لا يمكن التنازل عنها، حتى مع قيام أو مجيء دولة أخرى، وذلك بعكس أملاك الدولة التي تنتقل من دولة إلى أخرى، كما حدث خلال فترة الانتداب البريطاني، حيث انتقلت إلى الأردن، ومنها انتقلت إلى إسرائيل”. ويحذر تفكجي من أن “الأمر الآخر هو أن دخول الصندوق القومي اليهودي بشكل مباشر يعني وجود مخطط أكبر، وهو نقل ملكية الأراضي وكتل الاستيطان إلى الصندوق، لتصبح الملكية للشعب اليهودي، علماً أن الشعب اليهودي، بحسب توصيفهم، لا يبيع”.
وتأسس “الصندوق القومي اليهودي” في عام 1901، على يد ثيودور هرتزل، مؤسس “الصهيونية السياسية” المعاصرة، ويصنِّف نفسه على أنه منظمة غير حكومية، و”تمّ تأسيسه كحلم ورؤية لإعادة تأسيس وطن في إسرائيل للشعب اليهودي في كل مكان”. ودفع نشاط “الصندوق القومي اليهودي”، برئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، للكشف في تصريحات صدرت عنه قبل أيام، عن إدراج دولة فلسطين “الصندوق”، الذي سيعمل في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، كإحدى أدوات الاستعمار الاستيطاني، أمام الجنائية الدولية، لتتم مقاضاته فيها، مطالباً الفلسطينيين بتوخي الحذر “من محاولات تزوير وخداع، والاهتمام بأراضيهم، وزراعتها، والحفاظ عليها كما عملوا دائماً”. وأوضح اشتية أن “الصندوق القومي اليهودي” مسجل في بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل كجمعية خيرية، وهو يتقاضى تبرعات يتم إعفاؤها من الضرائب، مضيفاً أن “هذه الأموال تستخدم في بناء المستعمرات، وللمستعمرات، وهو أمر غير قانوني وغير شرعي”.
ويتزامن نشاط “الصندوق القومي اليهودي” مع مواصلة سلطات الاحتلال استهداف مؤسسات القدس بمختلف فئاتها بالإغلاق، وإرغامها على مغادرة مدينة القدس المحتلة. وذكّر مدير دائرة تنمية الشباب في جمعية الدراسات العربية، مازن الجعبري، في حديث لـ”العربي الجديد”، عن صفقة كانت تمّت بين القيادة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في عام 1996، في وقت كان فيه أيضاً بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء، وقضت بترحيل عشرات المؤسسات الفلسطينية في مدينة القدس، والتي كانت تقدم خدمات قانونية واجتماعية وصحية، وذلك مقابل عدم إغلاق “بيت الشرق” الذي كان قد أصدر نتنياهو في حينه قراراً بإغلاقه.
وفي هذا السياق، يروي الجعبري، مدير دائرة تنمية الشباب في جمعية الدراسات العربية – وهي أبرز مؤسسات “بيت الشرق” التي أغلقها الاحتلال وتتخذ الآن مقراً لها في ضاحية البريد خارج حدود بلدية الاحتلال: “حدث ذلك في عام 1996، حين أصدرت الحكومة الإسرائيلية قراراً بإغلاق مبنى بيت الشرق الذي كان يمارس أنشطة سياسية ودبلوماسية، ويقدم خدمات للسُكّان الفلسطينيين في القدس. وخلال ذلك الوقت، عقدت القيادة الفلسطينية صفقة مع الحكومة الإسرائيلية، وافقت بموجبها على ترحيل مجموعة من المؤسسات التي كانت تعمل في مدينة القدس إلى خارج المدينة، بما في ذلك إخراج بعض المؤسسات العاملة في بيت الشرق إلى خارج القدس”.
ترك إغلاق المؤسسات وترحيلها إلى خارج القدس تأثيرات كبيرة على المجتمع الفلسطيني المقدسي
ويعتبر الجعبري أن ذلك القرار “كان من أسوأ القرارات التي اتخذتها القيادة الفلسطينية في ذلك الوقت، بالتنسيق مع إسرائيل، من أجل الحفاظ على بيت الشرق ومنع إغلاقه، وهو كان يتناقض بشكل كامل مع التفاهمات التي كانت موجودة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن احترام عمل المؤسسات الفلسطينية في القدس برعاية النرويج التي رعت اتفاق أوسلو، فيما لم تلبث سلطات الاحتلال، بعد وفاة الراحل (عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية) فيصل الحسيني في عام 2001، إلى إغلاق بيت الشرق ذاته”.
ويلفت الجعبري إلى أن إغلاق المؤسسات وترحيلها إلى خارج القدس “ترك تأثيرات كبيرة على المجتمع الفلسطيني المقدسي، حيث كانت هذه المؤسسات تقدم خدمات مختلفة لعائلات الأسرى والمحررين من السجون الإسرائيلية، كما ترك أثراً بالغاً على عموم المجتمع المقدسي، إذ انتقل تقديم هذه الخدمات إلى خارج القدس، وأصبحت تلك المؤسسات تقدم خدمات أكثر لمواطني الضفة الغربية”.
ويضيف الجعبري أنه “بعد اتفاق أوسلو، حدثت الكارثة الكبرى، لأن إسرائيل استغلت هذا الاتفاق بسنّ مجموعة من القوانين التي منعت بموجبها عمل المؤسسات الرسمية الفلسطينية في القدس، وشنّت حملة واسعة من الإغلاقات استهدفت هذه المؤسسات، وأبرزها: بيت الشرق، الغرفة التجارية، نادي الأسير، والعشرات من المؤسسات الأخرى التي اعتبرتها تشكل تهديداً لسيطرتها وسيادتها على المدينة”. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عملت دولة الاحتلال، بحسب الجعبري، “على خلق العديد من البدائل لهذه المؤسسات، من خلال مراكزها الجماهيرية التابعة لبلدية الاحتلال، في حين تمكنت من السيطرة شبه التامة على قطاع التعليم والصحة، وحتى على الخدمات التي تقدم للشباب والمرأة”.
وتشير المعطيات الموثقة لدى مؤسسات فلسطينية، ومنها المركز الوطني للمعلومات، التابع لوكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية “وفا”، إلى أن سلطات الاحتلال أغلقت منذ عام 1967 ولغاية عام 2019 أكثر من مائة مؤسسة مقدسية، كان أبرزها “بيت الشرق” والمؤسسات الملحقة، إضافة إلى مؤسسات تعليمية وثقافية واجتماعية. وبحسب مؤسسة القدس للتنمية، فقد تم خلال العام الأول لانتفاضة الأقصى عام 2000، إغلاق وحظر أكثر من 20 جمعية نشطت في الدراسة والأبحاث والتجارة والصناعة والسياحة والإغاثة والزكاة، بالإضافة إلى رعاية عوائل الأسرى والشهداء.