منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك ما كان يسمى المعسكر الاشتراكي فضلا عن حلف وارسو في تسعينات القرن الماضي استقر النظام الدولي على هيمنة كاملة للولايات المتحدة الاميركية على ما اصبح يسمى بنظام القطب الواحد . كان هذا على الصعيد السياسي والعسكري ، اما على الصعيد الاقتصادي والمالي تحديدا فقد استقر النظام المالي الدولي على هيمنة مطلقة للدولار ، الذي حل محل الذهب كغطاء لاحتياطات الدول . في هذا النظام على مستوياته السياسية والعسكرية والمالية تحرص الولايات المتحدة الاميركية على تركيز الاهتمام على القضايا التي ترتبط بمصالحها بالدرجة الرئيسية ، والتي تُصنف كمصالح استراتيجية وحيوية لا يمكن التنازل عنها او تقاسمها مع دول اخرى ؛ أما باقي المصالح حول العالم فيمكن لأمريكا أن تسمح بمشاركة الدول الأخرى الصاعدة معها، كما يحصل في بحر الصين الجنوبي التي تهيمن عليه الصين والولايات المتحدة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصين لها حصة الأسد من البحر.
انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو كان مناسبة بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية لترتيب اوضاع القارة الاوروبية وفق رؤية تخدم التطلعات المستقبلية لواشنطن ، التي أخذت تنظر لبكين باعتبارها التهديد القادم من الشرق لمصالحها وهيمنتها على النظام الدولي ، خاصة بعد ان كثر الحديث عن إحتمال تفكك حلف الناتو بسبب أدائه السيّئ في كل من العراق وأفغانستان بعد احتلالهما وبسبب استمرار التباينات حول طبيعة دوره العالمي الجديد في حِـقبة ما بعد الحرب الباردة ، الى أن جاءت قمة بوخارست عام 2008 ، التي حاولت تدشين انطلاقة جديدة للحلف من خلال اعتماد خطط أمريكية لإقامة نظام دفاع صاروخي في أوروبا الشرقية والتزام العديد من الدول الأعضاء فيه وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا بدور اوسع في الحلف وبوضع ما اتفق على تسميته خريطة طريق ، بعيدة المدى لإنضمام أوكرانيا وجورجيا إلى المنظومة الأطلسية ، التي استوعبت دون ردود فعل من روسيا الاتحادية المنهكة سياسية واقتصاديا معظم الدول في شرق اوروبا والتي كانت في ما مضى جزءا من منظومة المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو .
وفي سياق تحولات ما بعد الحرب الباردة خرجت معظم دول أوروبا الشرقية من التبعية للامبراطورية السوفييتية، لتسقط بالكامل في قبضة الإمبراطورية الأمريكية – الأطلسية، ولم يبق خارجها سوى عدد قليل من الدول على حدود روسيا (أوكرانيا وجورجيا) وبعض دول البلقان (مقدونيا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة) ، بعد أن قبلت قمة بوخارست عضوية ألبانيا وكرواتيا في الحلف . وهكذا استكمل حلف الأطلسي إبتلاعه لكامل القارة الأوروبية واسدل الستار على ما تبقى من ماضي الحرب الباردة ، وبدأ اعداد المسرح الدولي لما هو قادم في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الاميركية في ظل انتقال مركز الاهتمام العالمي من أوروبا – حوض المتوسط – إلى آسيا – حوض الباسيفيك – وهو ما دفع الولايات المتحدة للتركيز على مزيد من إضعاف روسيا ومحاصرتها وحصر دورها على الصعيد الدولي في دور ثانوي كقوة اقليمية عظمى وليس كقوة دولية عظمى وتركيز كل جهودها العسكرية والأمنية في الشرق الأقصى ، لمجابهة الاخطار المترتبة على صعود الصين ونمور آسيا ومطالبها بتغيير منظومة النظام العالمي الحالي ، وما يترتب على ذلك من فراغ لن تستطيع سده سوى أوروبا الأطلسية.
صعود الصين كان واضحا للولايات المتحدة الاميركية باعتباره الخطر الذي يهدد نظام القطب الواحد ، الذي تنفرد فيه الولايات المتحدة بالهيمنة المطلقة عليه . فالصين في ظل التحديثات الاربعة التي أقرها حزبها الشيوعي الحاكم عام 1978 واستراتيجية الصعود السلمي عام 2003 اخذت تتقدم بمعدلات نمو قياسية تثير مخاوف الولايات المتحدة الاميركية . يكفي للتدليل على ذلك القاء الضوء على بعض المؤشرات المرعبة بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية ومنها نمو الناتج القومي الاجمالي الصيني من 1.66 تريليون عام 2003 الى 14.72 تريليون دولار عام 2020 ونمو الانفاق العسكري من 33 مليارد عام 2003 الى 252 مليارد دولار عام 2020 وزيادة براءات الاختراع من 32 الف عام 2007 الى 361 الفا عام 2019 متجاوزة بكثير مثيلاتها في الولايات المتحدة الاميركية فضلا عن ميزان تجاري عالمي ينمو بسرعة صاروخية لصالح الاقتصاد الصيني وعلاقات تتطور باستمرار مع الاتحاد الروسي على مختلف المستويات .
وسط هذه الاجواء وقعت الحرب الروسية الاوكرانية وهي في جوهرها تجاوزت جغرافيا البلدين وبدأت تأخذ طابع حرب عالمية بأدوات مختلفة تلعب فيها سياسة العقوبات الاقتصادية دورا بارزا وتحتل فيها وزنا ثقيلا . عنوان تلك الحرب عند الجانب الروسي وقف تمدد حلف الناتو شرقا على الحدود المباشرة للاتحاد الروسي وتوفير الحماية للناطقين بالروسية في الدونباس وفي شرق اوكرانيا الارثوذكسية واجتثاث النازية الجديدة من هذا البلد ، أما طابعها الدولي فقد اصبحت حدوده معروفة بالنسبة للاتحاد الروسي ومعروفة كذلك في رسائلها السياسية بما فيها تلك الموجهة الى جمهورية الصين الشعبية او رسائلها الاقتصادية والعسكرية والامنية ، التي لا تخطؤها عين ، بما في ذلك تلك التي تتصل بمصالح الاحتكارات وفي المقدمة منها احتكارات انتاج الاسلحة ، التي تراجعت في السنوات الأخيرة .
الحرب على اوكرانيا او في اوكرانيا ، لا فرق في ذلك ، لم تكن وليدة قرار اتخذه الرئيس الروسي في الرابع والعشرين من شباط الماضي ، بقدر ما كانت لحظة فارقة تزحف نحو التصادم في ظل تطورات دولية تبدو على السطح هادئة ولكنها في العمق كانت عاصفة . كان من الواضح ان الولايات المتحدة قد دخلت على خط إعداد هذا البلد كمسرح لحرب اختبار لما هو قادم في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الاميركية ومعها حليفها الرئيسي في المملكة المتحدة . مسرح الحرب كان اوكرانيا ، حيث بدأت الولايات المتحدة تغزو البلاد بمختبرات انتاج اسلحة دمار شامل بعد ان حرمت اوكرانيا نفسها بإرادتها من اسلحة نووية توفرت لها في عهد الاتحاد السوفياتي هذا فضلا عن امداد أوكرانيا قبل الحرب بالعتاد العسكري. فقد حصلت كييف على حزم مساعدات عسكرية مختلفة من من الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الحلفاء في الناتو ما بين أسلحة فتّاكة ومنظومات دفاعية ، كجزء من الدعم الأطلسي لذلك البلد. واشتملت تلك المساعدات على صواريخ “ستينغر” ومنظومة ” جافلين ” المضادة للدروع . وإلى جانب ” ستينغر” و” جافلين ” وفي المجموع حصلت أوكرانيا على أكثر من 17 ألف صاروخ مضاد للدروع والدبابات ، وأكثر من ألفي صاروخ من طراز ستينغر ، وما زال الدعم متواصلا بعد ان قدمت سلوفاكيا مؤخرا نظام صواريخ للدفاع الجوي من طراز إس 300 . وكانت التقديرات كلما طالت أيام الحرب، زادت تكاليفها وخسائرها المادية والبشرية، وتعقَّدت أيضا حساباتها السياسية أكثر فأكثر
ولكن بجانب النتائج السياسية التي ستترتَّب على الحرب، هناك نتائج أخرى لا تقل أهمية تتعلَّق برغبة كل طرف في التسويق لترسانته المسلحة بهدف الرفع من مبيعاته ، حيث ترى واشنطن في هذه الحرب فرصة مناسبة لإقناع العديد من الدول الأوروبية خصوصا بشراء منتجاتها العسكرية استعدادا لغد قادم وغير مستقر . ذلك فتح الابواب واسعة امام تجارة السلاح للاحتكارات العسكرية الاميركية والبريطانية وغيرها ، حيث كشف معهد ” سيبري ” لأبحاث السلام – أحد أكثر المراكز البحثية موثوقية في متابعة ورصد صناعة ومبيعات الأسلحة عموما – عن زيادة نفقات التسليح في أوروبا حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا بنسبة 19%، ليقترب من 200 مليار يورو على شؤون الدفاع خلال عام 2020 . وقد باتت هذه الأرقام اليوم مرشحة للزيادة في ضوء القرارات الأوروبية الجديدة بزيادة نفقات التسليح ، وإلزام الشعوب الأوروبية بدفع دولارات إضافية كضرائب بهدف زيادة النفقات الدفاعية.
وجاءت أموال تجارة السلاح تُصب في جيوب شركات تسليح عالمية ، تتزعَّمها خمس شركات أميركية رئيسية تستحوذ على 37% من سوق التسليح العالمي . وفي هذا السياق أشارت بيانات البورصة العالمية إلى ارتفاع أسهم هذه الشركات . وبلغة الارقام قفز سعر سهم شركة لوكهيد مارتن من 390 دولارا ليلة انطلاق الحرب إلى 468 دولارا في السابع من مارس/آذار الحالي وسعر شركة رايثيون من 92 دولارا عشية انطلاق الحرب إلى أكثر من 102 دولار مع بداية مارس/آذار الجاري ، وهي أعلى قيمة يبلغها سهم الشركة في تاريخها. أما شركة “بي إيه إي” البريطانية، التي تعتبر الأكبر في أوروبا ، فقد ارتفعت قيمة السهم الواحد فيها من 593 جنيها إسترلينيا عشية انطلاق الحرب إلى 754 جنيها إسترلينيا في الثامن من مارس/آذار الجاري ، وهو رقم قياسي لم يسبق أن حققه سهم الشركة البريطانية ، وكان لإعلان ألمانيا زيادة نفقاتها الدفاعية تأثير كبير على أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في ألمانيا ، ويتعلق الأمر بشركة “راين ميتال” التي قفز سهمها من 110 دولارات مع بداية الحرب إلى 156 دولارا في الأول من مارس/آذار الحالي مباشرة بعد إعلان ألمانيا زيادة نفقاتها العسكرية. ومن التطورات الكبيرة التي فرضتها الحرب في أوكرانيا عودة الصناديق الاستثمارية وشركات الاستثمار المالي لتوظيف أموالها في شركات تصنيع الأسلحة على غرار المؤسسة المالية السويدية “إس إي بي ” التي يبلغ رأسمالها حوالي 86 مليار دولار والتي أعلنت أنها سوف تسمح لستة من صناديقها الاستثمارية بالاستثمار في شركات الأسلحة.
وبالإضافة إلى ارباح هذه الاحتكارات في مجال التسليح ، من المتوقع ان تحقق بعض الدول الصاعدة هي الاخرى ارباحا مجزية وفي مقدمتها تركيا التي حازت صناعاتها الدفاعية سمعة لا بأس بها بفضل الطائرات المسيرة من طراز ” بيرقدار ” هذا الى جانب دولة الاحتلال الاسرائيلي التي تعتبر نفسها أحد الأطراف الخفية المستفيدة من الصراع الدائر ، حيث ارتفعت أسهم شركة ” إلبيت سيستمز ” بنسبة 18% بعد مرور يومين فقط على بدء الحرب الأوكرانية .
وهكذا فإن الحرب كما هو واضح عادت بأخبار طيبة لشركات الأسلحة التي ارتفعت أسهمها بشكل واضح مباشرة بعد اندلاع الحرب في اوكرانيا ، مدفوعة تحت ضغط الولايات المتحدة الاميركية بإعلان عدد من الدول الغربية نيتها زيادة نفقات التسلح . فقبل الحرب كانت ثماني فقط من الدول الأعضاء في حلف الناتو قد خصصت ما لا يقل عن 2% من إجمالي ناتجها المحلي لنفقاتها الدفاعية عام 2021، أي أقل بثلاث دول عن العام 2020 والدول الثماني التي بلغت أو تخطت هدف 2% من إجمالي ناتجها المحلي عام 2021 هي اليونان (3,59%) والولايات المتحدة (3,57%) وبولندا (2,34%) والمملكة المتحدة (2,25%) وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا (2,16% لكل منها) وليتوانيا (2,03%) لتأتي بعد ذلك فرنسا (1,93%)، حيث كانت دول الحلف قد تعهدت عام 2014 بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، بزيادة إنفاقها العسكري إلى 2% من إجمالي ناتجها المحلي بحلول 2024 . وأعلنت ألمانيا في منتصف آذار/مارس استثمارات قياسية في جيشها اعتبارا من العام 2022 طامحة إلى بلوغ نسبة 2% في السنوات القادمة بعدما اقتصر إنفاقها الدفاعي على 1,49% في 2021.