بقلم : تيسير خالد
سرقت دموعنا يا ذئب . بهذه الكلمات المعبرة لخص الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش سياسة دولة اسرائيل منذ اللحظات الاولى لقيامها وما ترتب على ذلك من نكبة حلت بالشعب الفلسطيني ولا زالت فصولها تتوالى منذ العام 1948 . دولة قامت على الارهاب وعلى جرائم التهجير والتطهير العرقي وطرد شعب من ارض آبائه وأجداده على أيدي كيان متوحش منذ بداياته ويملأ الدنيا ضجيجا في الوقت نفسه ضد ما يسميه الإرهاب ، مستنكرا على الضحية أن تتمرد على شروط قتلها . في ذلك العام شردت اسرائيل ، الدولة الوليدة ، ما يربو عن 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1300 قرية ومدينة فلسطينية .
وسيطرت تلك الدولة في الاشهر الاولى لعام النكبة على 774 قرية ومدينة فلسطينية ، ودمرت منها 531 بالكامل وما تبقى تم اخضاعه الى كيانها وقوانينها تحت حكم عسكري قاس حتى العام 1966 ، وقد رافق عملية التطهير هذه اقتراف منظمات ارهابية يهودية أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين ترتب عليها استشهاد أكثر من 15 ألف فلسطيني ، وكان اشدها هولا مجزرة دير ياسين في نيسان من العام 1948 ، أي قبل قيام الدولة بشهر ومجزرة الطنطورة ، التي تكشفت لاحقا عن جرائم وحشية دفن في اثرها نحو 200 فلسطيني، بعد إعدامهم في قبر جماعي يقع حاليا تحت ساحة انتظار سيارات “شاطئ دور”. وقد جاءت تلك الجريمة البشعة وغير المسبوقة في تاريخ المنطقة بعد أكثر من شهر على مذبحة دير ياسين وبعد أسبوع على إعلان ما سمي باستقلال الدولة ، لكن قرار المجزرة اتخذ يوم 9 ايار/مايو وكلفت الكتيبة الثالثة والثلاثون من لواء الاسكندروني في «الهاغانا» بتنفيذ المجزرة ليلة 22/23 ايار/مايو 1948.وفق ما أفادت شهادات لاحقة لجنود ذلك اللواء الذين شاركوا في احتلال تلك القرية ،
وفي ضوء ما تقدم ، يجب الاعتراف ونحن نقف أمام الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني ، التي تزامنت مع قيام دولة اسرائيل ، أننا قصرنا في التصدي للرواية الإسرائيلية حول النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني ولم نقدم روايتنا نحن لهذه النكبة كما حصلت بالفعل . من الواضح ان للنكبة روايتان ، واحدة إسرائيلية اعتمدت الكذب وتزوير الحقائق منهجاً. والثانية فلسطينية جرى تجاهل احداثها فعلا، مقدماتها وتداعيتها وغابت عن اهتمامات الرأي العام العالمي لاعتبارات متعددة ليس أقلها شأنا أن العالم كان قد خرج للتو من أهوال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من جرائم ارتكبها الوحش النازي ، وألقت بعد سنوات معدودة بظلالها الثقيلة على جرائم كانت من صنع ضحايا النازية الهتلرية
وبنت اسرائيل روايتها على مزاعم تاريخية توراتية اعتمدت الاساطير وأقوال العرافين وتمسكت باستمرار بشرعية المشروع الصهيوني الذي يدعو للعودة الى ارض الميعاد بعد غياب قسري مزعوم استمر آلاف السنين وبأن المشروع الصهيوني جاء ينقذ اليهود من اللاسامية ومن عمليات الاضطهاد والابادة كما جرت في اوروبا وبشكل خاص على أيدي الوحش النازي . وقامت الرواية الاسرائيلية على تجاهل وإقصاء رسمي لجميع الآثار التي تشير الى الوجود العربي في فلسطين قبل العام 1948، وسطت على اسماء الجبال والتلال والسهول والمدن والقرى الكنعانية القديمة . وفي سياق تزوير تاريخ فلسطين ومعالمها قامت دولة الاحتلال بتغيير نحو 80 ألف مُسمّى في مختلف المناطق الفلسطينية المحتلة لفرض روايتها الصهيونية . وركزت عمليات تزوير التاريخ والمكان بطبيعة الحال على مدينة القدس في محاولة لتزييف طابعها الثقافي والحضاري من خلال تغيير الأسماء العربية والإسلامية لشوارعها وأزقّتها واستبدال الأسماء العربية بأخرى يهودية، لإضفاء الشرعية على وجودها في فلسطين ونفي الرواية الفلسطينية وتوثيق الرواية الإسرائيلية بأسماء عبرية ذات دلالات توراتية ، فحارة الشرف تحولت الى الحي اليهودي وعقبة الخالدية الى الحشمونئيم والواد الى هجاي وشارع عمر بن الخطاب الى شارع بيتي مهاسي وطريق حارة الشرف الى شارع هلوت رابي يهودا وشارع خان الزيت الى بيت حباد وحي البستان الى شيرهمعلوت و جبل الزيتون الى هارهمشحاة ورأس العامود الى معاليه هزتيم و وادي الربابة الى وادي هنوم ووادي حلوه الى عيردافيد وهكذا .
كما استخدمت اسرائيل في التأثير على الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة صورا متعددة في علم الآثار والنبات والطعام والتربية والعمارة والسياحة التي تركز على هدف محوري وهو تغييب التاريخ الفلسطيني في البلاد ، ومحو صور النكبة في وعي المواطن الاسرائيلي العادي. واعتادت ومعها الحركة الصهيونية على إنكار مجرد وقوعها والادعاء أن هدف الحديث عن النكبة هو نزع الشرعية عن إسرائيل . وواصلت التنكر للمسؤولية عنها وإحالت مسؤولية الهجرة الجماعية للفلسطينيين على الدول العربية التي دعتهم الى ذلك في انتظار اعلان النصر على المشروع الصهيوني في فلسطين . وواصلت إسرائيل ومعها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية رفضها لمجرد رؤية الفلسطينيين كضحايا لممارساتها وجرائمها وعملت بكل جهد على تجريد الفلسطينيين من القدرة على عرض أنفسهم كضحايا.
وفي أفضل الحالات عرضت اسرائيل مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية يتحمل مسؤوليتها القادة الفلسطينيون وزعماء الدول العربية. وعملت جاهدة في الوقت نفسه على محو الذاكرة بواسطة الكتب التدريسية التي تتجاهل البعد الإنساني لتبعات حرب 1948، واستنفرت آلتها السياسية والامنية والاعلامية لنزع الشرعية عن أدبيات المؤرخين الجدد التي ناقضت الرواية الصهيونية بشأن الحرب واللاجئين. وسنت قانون النكبة الذي يهدف إلى تمكين وزارة التربية والتعليم من فرض عقوبات على المؤسسات التربوية التي تُحيي ذكرى النكبة
وفي المقابل قصرنا نحن كفلسطينيين في تقديم روايتنا الفلسطينية كما حدثت منذ وعد بلفور وصك الإنتداب وما صاحبهما من إنكار للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في تقرير المصير . ففي وعد بلفور كما في صك الانتداب كان يجري الحديث عن غير اليهود في فلسطين وعن حقوقهم المدنية والدينية وحسب . كان ذلك يجري قبل صعود الفاشية والنازية في القارة الاوروبية وقبل محرقة الوحش النازي بسنوات طويلة ، وقد جاء ذلك في سياق تقسيم وإعادة اقتسام العالم بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى حيث ظهرت الحركة الصهيونية باعتبارها أحد أدوات الاستعمار ونتيجة طبيعية ومنطقية لتطور آليات سيطرته على بلدان المنطقة بعد نهاية الحرب
جانب آخر لا يقل أهمية في عرض الرواية الفلسطينية هي السياسة التي سارت عليها الحركة الصهيونية ومؤسساتها في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني وما صاحبها من تطهير عرقي صامت وتهجير للمواطنين من اراضيهم المسهتدفة ببناء المستوطنات الاولى وسياسة العمل العبري وبناء المجتمع المغلق في فلسطين ، الذي كان يخطط لممارسة التطهير العرقي على نطاق واسع عندما تحين اللحظة المناسبة لذلك . كان بناء المنظمات العسكرية وشبه العسكرية بما فيها المنظمات الارهابية اليهودية يجري على قدم وساق تحت سمع وبصر حكومة الانتداب البريطاني ، وعندما جاءت اللحظة المناسبة بانسحاب القوات البريطانية في فلسطين ، كانت البلاد مسرحا لعمليات قتالية لقوات يهودية مدربة ومسلحة وتتفوق في عديدها وعتادها على الجيوش العربية ، التي شاركت في حرب العام 1948
وكانت خطة “دالت” للتطهير العرقي الشامل والتي اقرتها قيادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في آذار من العام 1948 جاهزة ، بعد ان أوكلت تنفيذها بتوجيهات تفصيلية الى تلك القوات ، التي بنتها الحركة الصهيونية في فلسطين بمساعدة مباشرة من حكومة الانتداب البريطاني . كانت الخطة تقوم على التطهير العرقي كهدف مركزي من أهدافها ، بتوجيهات صارمة وتفصيلية ، تدعو دون رحمة الى القتل ودب الرعب ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية وحرق البيوت والممتلكات وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع الأهالي من العودة الى بيوتهم، وترتب على تلك الخطة الاجرامية ، التي كشف عنها عدد من المؤرخين الجدد في اسرائيل أن ارتكبت ” الهاجناه ” القوة العسكرية النظامية الرئيسية ونواة الجيش بعد قيام الدولة وغيرها من المنظمات الارهابية 28 مجزرة كان اشدها هولا في دير ياسين ونفذت عمليات هدم لأكثر من 530 بلدة وقرية وهجرت نحو 800 الف فلسطيني وحولتهم الى لاجئين
هذه الرواية قدمناها مجردة دون توضيح لطبيعتها وسياقها السياسي ولم نقدم معها ما قاله مناحيم بيغن واسحق شامير وغيرهم من قادة منظمات الارهاب اليهودي عن دير ياسين مثلا ، وكلاهما أصبحا في ما بعد رؤساء لحكومات اسرائيلية . فقد قال مناحيم بيغن انه بدون دير ياسين ما كان ممكناً لإسرائيل ان تظهر للوجود ، أما اسحق شامير فقد وصف المجزرة بأنها كانت واجباً انسانياً
أبعد من ذلك ، ففي حين عبر السيد جاك رينيه مدير عمليات الصليب الأحمر في فلسطين أنذاك ، والذي زار القرية وعاين الجريمة المروعة ميدانيا وقدم بشأنها تقريرا تقشعر له الابدان الى الأمين العام للأمم المتحدة عبر فيه عن غضبه من الممارسات الهمجية للقوات اليهودية التي هاجمت الاطفال والنساء في القرية ، وجه مناحيم بيغن ، رئيس الأرغون الإرهابية رسالة التي القادة الذين نفذوا تلك الجريمة قال فيها : “إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع” ” تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش ، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادة إننا نصافحهم ونفتخر بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل ، وإلى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها سنقتحم ونبيد العدو ، ربنا لقد اخترتنا للفتح ”
هذه الرواية تأخرنا في تقديمها كما جرت للعالم باعتبارها الفيصل بين الحقائق والأكاذيب والدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم ارتكابها ، الأمر الذي سمح لفترة غير قصيرة لرواج الرواية الإسرائيلية ، التي ادعت ان سكان فلسطين غادروا منازلهم استجابة لنداءات من الخارج . وقد تأخر العالم في سماع روايتنا بقدر ما تأخرنا نحن في طرح رؤيتنا وروايتنا .