بقلم: جيرالد شتاينبرغ*
بعد مرور 55 عاماً على حرب “الأيام الستة” لا يزال وضع منطقة الضفة الغربية وسكانها “مؤقتاً”، ويشكل بؤرة رئيسة لعدم الاستقرار. بعد النتائج غير المتوقعة لهذه الحرب، إذ لم يكن لدى حكومة إسرائيل آنذاك خطة استراتيجية لتسوية الوضع، وعلى عادة التقاليد اليهودية، ظل سياسيون وقادة عسكريون وخبراء يناقشون الموضوع أسابيع وشهوراً وسنوات في انتظار رد جدي من الدول العربية.
في هذا الفراغ الناشئ قامت مجموعات من مثل “غوش إيمونيم” بفرض وقائع على الأرض تطورت مع مرور السنوات إلى مستوطنات ومدن حول مواقع توراتية، وفي المقابل أقام الجيش الإسرائيلي مواقع له تحوّل جزء منها إلى مستوطنات أيضا. كل شيء كان “مؤقتاً”، ومع مرور الوقت وضعت قوانين طوارئ وقوانين مؤقتة تتطلب موافقات دورية.
وكانت النتيجة فوضى من دون تفكير استراتيجي وقرارات بعيدة الأمد. ومن النتائج المستقبلية الأُخرى غير المخطط لها التحوّل التدريجي لكامل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط إلى كيان سياسي واحد، حيث يساوي عدد المواطنين اليهود تقريباً عدد الفلسطينيين، وجميع هؤلاء محاصر بموجات من “الإرهاب”.
بالنسبة إلى الفلسطينيين أبقت 55 عاماً من الوضع القائم وَهمَ “العودة” إلى 1947، هذا الوهم الذي دعمه المجتمع الدولي دعماً كبيراً بسبب التعريف الأسطوري والفريد لـ”اللاجئ الفلسطيني”. خيار الدولة الواحدة مع أكثرية فلسطينية بينما اليهود يختفون رويداً رويداً مثل الصليبيين، يغري الفلسطينيين أكثر من “حل الدولتين”، الذي يعطي الشرعية للسيادة اليهودية من دون علاقة بالحدود النهائية.
وبينما اعتاد كثير من الإسرائيليين على وضع الحائط المسدود، فإن العديد من الأشخاص في الخارج وبينهم كثير من اليهود يرون في إسرائيل دولة استيطانية استعمارية، ودولة أبارتهايد. يترافق ذلك مع شعارات جوفاء وأساطير تتذرع بالقانون الدولي من أجل تبرير شيطنة إسرائيل. عندما قُتلت مراسلة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في جنين اتهمت إسرائيل بصورة تلقائية بأنها هي التي ارتكبت “جريمة بدم بارد”. كما يجري تشجيع الكراهية وتعزيزها من خلال الحملات التي تشنها المنظمات غير الحكومية التي تتغذى من الصورة المشوهة التي ينجح الفلسطينيون في تصويرها.
لا جديد في هذا كله، فهو يُعتبر أمراً مفروغاً منه. لكن ما ليس مفروغاً منه ما يمكن أن نقوم به اليوم لاستبدال الوضع القائم بإطار واقعي وأفضل بكثير.
إن البحث عن حلول ليس الهدف منه اقتراح خطة سلام أُخرى خيالية، إنما تجديد وتشجيع نقاش داخلي – إسرائيلي بشأن البدائل المحتملة للوضع القائم بالاستناد إلى واقع اليوم.
التعلم من إخفاقات الماضي
يُظهر التاريخ أنه بعد مرور 55 عاماً لا يزال الوضع القائم المؤقت مستمراً. في هذه الأثناء فإن خيار كيان سياسي واحد بين الأردن والبحر مع عدد متساوٍ من السكان، وتداعيات ذلك على المشروع الصهيوني يزداد ويكبر. وهذا هو الحل المفضل بالنسبة إلى الفلسطينيين. لن تُحل هذه المشكلات، وما زال التعهد بالبحث عن حلول أفضل مطروحاً.
مع هذا التاريخ ومع الواقع الحالي، ليس مستغرباً أن يفقد كثير من الإسرائيليين الأمل. فلا يظهر النقاش بهذا الشأن تقريباً في البرامج الانتخابية للأحزاب الكبيرة، ويشكل هذا أحد المشكلات، ويعزز التيارات المعادية للصهيونية التي تعتبر تطور إطار “الدولة الواحدة” من النهر إلى البحر هو الخيار الأفضل.
من أجل المضي قدماً والتعلم من أخطاء الماضي، المطلوب وضع استراتيجية جديدة تعتمد على الواقعية السياسية وعلى مصالح إسرائيلية محسوسة، وأقل اعتماداً على الأمنيات والأيديولوجيا. فالواقع يفرض تحليلاً حذراً ودقيقاً للفائدة والثمن النسبي لمختلف الاحتمالات، بما في ذلك استمرار الوضع القائم، والأخذ باعتبارات الأمن (القدرات العسكرية وحدود يمكن للدفاع عنها)؛ واعتبارات صهيونية وديموغرافية (أغلبية يهودية مطلقة)؛ وصورة إسرائيل في المجتمع الدولي.
على هذا الأساس وعلى عكس اتفاقات أوسلو وأطر أُخرى يجب أن نبدأ من النهاية: حاجة دولة إسرائيل إلى أن تحدد حدودها بنفسها. في اللحظة التي نبحث في العمق، ونناقش ونقرر ما هي المناطق التي نحن بحاجة إلى الاحتفاظ بها حفاظاً على مصالح إسرائيل، ومن أجل استمرار المشروع الصهيوني، يصبح نقاش وسائل تحقيق ذلك أكثر نجاعة.
بالإضافة إلى المحافظة على القدس الموحدة، وخصوصاً المدينة القديمة والأماكن المقدسة، فإن الموضوع الجوهري والأساسي هو تحقيق الحد الأقصى من الأمن في مقابل الحد الأدنى من السيطرة على الفلسطينيين والمسؤولية عنهم. السكان في إسرائيل يتألفون من 80% من اليهود و20% من العرب، وفي دول قومية أُخرى تعيش فيها مجموعات إثنية وثقافية أو دينية مركزية، تُعتبر أقلية مؤلفة من 20% نسبة مرتفعة جداً، وخصوصاً إذا كانت لهذه الأقلية مطالب قومية. إن الحدود التي ستقلص الأغلبية اليهودية إلى 60% مثلاً تشكل تحدياً كبيراً للصهيونية.
وعندما نتمعن في العناصر الأُخرى نجد اتفاقاً واسعاً على الأهمية الاستراتيجية لغور الأردن والممرات الموصلة إليه، وكذلك الكتل الاستيطانية المحاذية للخط الأخضر وداخل الجدار الأمني التي هي في الواقع جزء من إسرائيل، مع عدد ضئيل من الفلسطينيين.
هناك موضوع آخر هو مستقبل المنطقة “ج” التي بحسب اتفاقات أوسلو واقعة تحت سيطرة إسرائيلية. لهذه المنطقة أهمية استراتيجية كبرى مع أقلية محدودة من السكان الفلسطينيين. لكن من دون سياسة واضحة فإن الفلسطينيين والأوروبيين المؤيدين لهم سيعملون على خلق وقائع على الأرض.
إن القرى الفلسطينية الموجودة في نقاط أساسية مثل خان الأحمر ومسافر يطا والتي تسرد قصصاً ملفقة من أجل إقناع الأوروبيين بأصالتها هي محاولات لمنع إسرائيل من الاحتفاظ بهذه المنطقة. كلما مر الزمن من دون أن نقرر الأجزاء من المنطقة “ج” التي يجب أن تبقى جزءاً من إسرائيل، سيجعل الأمر أكثر صعوبة في المستقبل.
البعد الأخير هو البعد النظري. بالنسبة إلى جزء من الإسرائيليين ومن يهود الشتات فإن أحد الموضوعات المؤلمة هو صورة إسرائيل كدولة احتلال تمنع، بصورة وحشية، الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم. هل شيطنة إسرائيل ستكون أقل لو أن الوضع القائم استبدل بحدود واضحة ومعترف بها من المجتمع الدولي؟ هل يهود الشتات الذين أصبحوا معادين لدولة إسرائيل ومنفصلين عنها بسبب الـ55 عاماً الأخيرة يمكن أن يتوجهوا وجهة أكثر إيجابية؟
الإجابات غير واضحة. ولن تختفي صورة الضحية الفلسطينية في مقابل الوحشية الإسرائيلية. مهما تفعل إسرائيل فهذا لن يغير من الأمر، فستبقى دائماً المذنبة. وعلى الرغم من ذلك، فإن تعيين حدود واضحة لدولة إسرائيل سيقلل من العداء لها. ومع ذلك كله، من المهم التشديد على أن التغيير المحتمل في نظرة أطراف أجنبية حيال إسرائيل وحدودها يجب ألاّ يكون هو العنصر الحاسم في اتخاذ القرارات بشأن هذا الموضوع.
في الخلاصة، يبدو أن تغيير الوضع القائم بعد 55 عاماً من الصعب تحقيقه، وخصوصاً في ضوء التفاوت الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي، كما أن استمرار الفوضى يشكل خطراً كبيراً على إسرائيل والصهيونية. وما دمنا نواصل هذه السياسة المؤقتة من دون وجود مصالح تعتمد على واقعية سياسية، سيكون من الصعب أكثر فأكثر مواجهة النتائج في المستقبل.
عن “معاريف”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بار إيلان”.
عن صحيفة الايام الفلسطينية