بقلم تيسير خالد
رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتناهو محاط بمسلسل من المشكلات الداخلية ، فهو يقود انقلابا على المؤسسة القضائية يمكنه من الافلات من المساءلة والمحاسبة على خلفية ملفات جنائية ، ما يفاقم خلافاته مع المعارضة الصهيونية ، التي تخرج مساء كل سبت في تظاهرات تتسع المشاركة فيها من اسبوع لآخر ، وفي الوقت نفسه يحاول لملمة خلافات داخل ائتلافه الحكومي في قضايا داخلية تتصل بجهاز التعليم وحقوق الانسان والأقليات ووتيرة السيطرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية . هو عالق في هذا المسلسل ومع ذلك يتصرف كالساحر ولا يجد عناء في عرض ما في القبعة على الجمهور .
نتنياهو يحاول الهرب من هذا المسلسل بتوسيع دائرة المشهد ويقفز عن مشكلاته الداخلية نحو فضاء خارجي يتيح له احتواء تداعياته . أسابيع قليلة على تسلمه رئاسة حكومته اليمينية المتطرفة الجديدة يقوم بزيارة الى فرنسا ويعرض ام مسؤوليها التعاون في توجه ضربات لنحو ثلاثة آلاف هدف في ايران ويرسل وزير خارجيته إيلي كوهن على رأس وفد إلى العاصمة السودانية الخرطوم ، في تاريخ يتطابق مع تاريخ لقاءه بالفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الحاكم في السودان في اوغندا قبل ثلاث سنوات للبحث عن التاريخ الانسب لتوقيع إتفاقية سلام بين الجانبين في إطار اتفاقيات “ابراهام” ، التي وقعها مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب . نتنياهو المحاصر في مشكلاته الداخلية يبحث عن إنجازات في محيطه الخارجي تحيد على الأقل حدة تلك المشكلات .
لندع موضوع إيران جانبا ، فهو شائك ولا طاقة لنتنياهو وأهدافه بها ، ففرنسا واروبا منشغلة بما هو أهم من ذلك في اوكرانيا بشكل خاص والقارة الاوروبية بشكل عام ، ولنعالج هدف زيارة وزير خارجيته الى السودان باعتباره في متناول اليد بعد انقلاب عسكره على ثورة الحرية والتغيير ، التي أطاحت قبل اربعة أعوام بنظام حكم البشير ، ولنعد قليلا وبإيجاز الى التاريخ .
منذ خمسينات القرن الماضي كان السودان في مركز اهتمام دولة اسرائيل والحركة الصهيونية . فقد عقدت اجتماعات بين عدد من زعماء حزب الامة مع قادة اسرائيل في تلك السنوات في كل من تل ابيب واسطنبول وباريس ، حيث عرض ممثلون حزب الأمة السوداني رغبتهم في تطوير علاقتهم مع إسرائيل، انطلاقا من هواجس تمدد نفوذ النظام الناصري في مصر نحو السودان في حوض نهر النيل وهي اجتماعات لم تتبلور في علاقات رسمية بين الطرفين ، بل سرعان ما اندثرت وغابت عن جدول اهتمامات ذلك الحزب . في حينه احتل السودان مكانة في ما سمي بعقيدة المحيط الإسرائيلية في مواجهة صعود مصر الناصرية ، وهي عقيدة رسم ملامحها رؤوفين شيلواح ، الأبُ المؤسس لوكالة الاستخبارات الوطنية الإسرائيلية (الموساد)، انطلقت تلك العقيدة من فرضية ان مصر الناصرية يجب محاصرتها بدائرتين ، الأولى خارجية تضم دولاً غير عربية وافريقية والثانية هي أقليات دينية وإثنية من بينها الموارنة في لبنان والدروز في سوريا والأكراد في العراق وقبائل جنوب السودان . في سوريا فشلت عقيدة المحيط الاسرائيلية ، فيما حققت بعض التقدم في كل من لبنان والعراق وجنوب السودان في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي . في السودان وانطلاقا من قواعد في أوغندا وكينيا، كان سلاح الجو الإسرائيلي يلقي الذخيرة والأسلحة لمساعدة جبهة تحرير السودان ، التي نجحت في حينه بمساعدة الموساد بتدمير الجسور على النيل وإقامة الكمائن للجنود في الجيش السوداني . ولعب الموساد والبحرية الإسرائيلة دورا حتى بعد توقيع الرئيس السوداني جعفر النميري عام 1972 اتفاقية أديس أبابا التي خفضت منسوب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب . في تلك الفترة أدار الموساد بشكل سري منتجعا سياحيا على البحر الأحمر كان واجهة لعملية تهريب نحو 18 ألف إثيوبي إلى إسرائيل
صورة السودان الرسمي بدأت تتغير مع توقيع أنور السادات اتفاق سلام مع الاسرائيليين . بدأ النميري يعيد حسابته والتقى عام 1981 بوزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون في كينيا على خط مواز للموساد للعمل ضد نظام الحكم في ايران لكن الخطة فشلت بعد أن اعترض عليها الموساد الذي لم يكن على علم بها. رغم ذلك تواصلت العلاقات بين الطرفين وواصلت إسرائيل عملية تهريب اليهود الإثيوبيين ولكن هذه المرة بمساعدة من النميري ورئيس جهاز مخابراته برشوة قدمتها لكليهما منظمة يهودية دولية تسمى “لجنة التوزيع الأميركية المشتركة” بلغت قيمتها 30 مليون دولار.
مع انقلاب عمر البشير 1989 المدعوم من حزب الجبهة الإسلامية القومية بزعامة حسن الترابي بدأت الصورة تتغير وعاد السودان الرسمي يتبنى مواقف معادية لإسرائيل وانفتح في محطات معينة على التيارات الاسلامية واستضاف زعيم القاعدة أسامة بن لادن وتعاطف الى حد كبير مع ايران وقدم المساعدات بسخاء لحركة المقاومة الاسلامية حماس ، ما أثار غضب ونقمة كل من اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية ، التي عملت بحزم على محاصرة نظام البشير وفرض عقوبات مشددة على السودان ارهقت اقتصاده الضعيف أصلا ، فيما بدأت اسرائيل في الاعوام 2009 و2011 بشن سلسلة غارات على السودان كان اكثرها وقعا ثلاث غارات على شاحنات كانت تستعد لنقل أسحله الى قطاع غزة ، أسفرت إحداها عن مقتل نحو ثمانين سائقا سودانيا .
وكنظام جعفر النميري كان نظام البشير نظاما فاسدا ، وعلى كل حال هذا هو وضع معظم انظمة الانقلابات العسكرية ، ليس في المنطقة العربية وحسب بل وفي مختلف ما يسمى بالدول النامية والمتعثرة . تأتي الانقلابات محمولة على اكتاف مطالب شعبية للتغيير وتنتهي الى أنظمة فاسدة تنهب البلاد وتستعبد العباد ويصبح الوطن فيها سلعة للمساومة مع القوى الخارجية
نظام العسكر ، الذي يحكم السودان هذه الأيام ليس استثناء بل في إطار القاعدة . فقد جاء محمولا على على اكتاف ثورة الحرية والتغيير وهو الآن في ذروة الالتفاف على الحرية وعلى التغيير معا ، ويبحث لنفسه عن موقع لبلد مرهق بالديون وتعصف فيه رياح الفتن على اختلافها . فالسودان الغني بموارده مثقل بديون لا طاقة له على تحمل تبعاتها . ونظراً لحالة الاقتصاد السوداني ، فإن خطة العسكر لإنقاذ الاقتصاد تتمثل معالجة أزمة الديون وفي الحصول على قروضٍ ومساعدات قناتها دولة اسرائيل ومصدرها الولايات المتحدة الأميركية . في ضوء ذلك تمتعت واشنطن بحرية تقرير السياسات المتبعة في الخرطوم. فلجأت الدولة الامبريالية الأقوى في العالم إلى سياسة الاحتواء والابتزاز لواحد من أفقر البلدان لِتطويعه سياسياً، بلد مثقل بدين خارجي تجاوز عام 2019 نحو 59 مليار دولار أميركي ما يوازي أكثر من 190% من ناتجه المحلي الإجمالي ومعدل تضخم قدر بحوالي 400% ، ووجدت في حكم العسكر ضالتها . وما ان وقعت حكومته الانتقالية على اتفاق ابراهيم لتطبيع العلاقات مع اسرائيل خلال زيارة وزير الخزانة الأميركية السابق ستيفن مينوشين مطلع العام 2021 حتى ارفقت ذلك بمذكرة تفاهم للحصول على قرض تقوم بموجبه الولايات المتحدة بتسديد متأخرات ديون السودان للبنك الدولي . تلك كانت فرصة بالنسبة لاسرائيل ، التي طرحت مبادرة التطبيع بدعم من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ، في بداية عام 2020 . وتجاوب الحكم في السودان بسرية تامة مع المبادرة بعد شهرين فقط من عرضها ، في زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى مدينة عنتيبي الأوغندية للقاء بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل ، دون تنسيق مع الحكومة الانتقالية ورئيسها عبد الله حمدوك ، ما أثار شبه أزمة بين مكوني الحكم العسكري والمدني عبرت عن نفسها بإقالة الناطق الرسمي باسم الخارجية السودانية ، الذي عبر عن تثمينه لخطوة البرهان ، فيما أكدت الحكومة أن البحث مع الادارة الأميركية يدور حول مسار العملية الانتقالية في السودان، والعلاقات الثنائية بين البلدين، ومساعي رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وأجندة محددة لاستكمال عملية الانتقال، وتحقيق السلام والاستقرار في البلاد، وصولًا إلى انتخابات حرة ونزيهة، وأنّ الحكومة الانتقالية لا تملك تفويضًا يتعدى هذه المهمات للتقرير بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل .
واستمر هذا الموقف الضبابي يسود الحالة في السودان ، حكم العسكر يدفع في اتجاه التطبيع مع اسرائيل ، حيث يتبادل الادوار كل من البرهان وحميدتي في زيارات مكوكية يتولى فيها البرهان البحث عن غطاء وثمن للخطوة في عواصم عربية ومع الادارة الاميركية فيما يتولى حميدتي البحث في دفع خطوات التطبيع مع قادة تل أبيب . كل منهما يغطي الآخر ، ويناور مع المكون المدني ويتركان لأطرافه التنازع على جلد نظام الحكم بعد الفترة الانتقالية الوهمية .
وقع حكم العسكر في المصيدة او هو ذهب نحوها بملء إرادته ، وكان هذا مناسبا للإدارة الاميركية ، التي أخذت تمارس الابتزاز السياسي مع حكومة السودان ، بعد ان ربطت ملف رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب بتعويضات ضحايا أحداث تفجير السفارتين الأميركيتين بدار السلام ونيروبي عام 1998 ، وتفجير المدمرة الأميركية كول عام 2000 من ناحية ، وبملف التطبيع مع إسرائيل من ناحية أخرى. واضطرت الحكومة لتسديد ما عليها من تعويضات فدفعت لتاجر السياسة دونالد ترامب ما أخذته من مساعدات هزيلة باليد اليسرى ما قيمته 335 مليون دولار باليد اليمنى . أما ملف التطبيع فبقي عالقا ينتظر الحسم بعد تصفية بقايا حساب مع المكون المدني في السودان . حين أصدر الفريق البرهان نهاية العام 2021 أمرا باعتقال رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية ، الأمر الذي عُدّ انقلاباً على المكوّن المدني وانفرادا بالسلطة ، ما زاد المشهد السياسي تعقيدا ، خاصة وأن الادارة الأميركية رأت في الأمر خطوة خشنة ، فيما دعمت دولة اسرائيل الانقلاب في رهان واضح على حكم العسكر باعتباره الأقدر حسب تقديرات أجهزتها الأمنية وخاصة الموساد على دفع خطوات التطبيع الى امام وإقامة العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل .
هل يواصل حكم العسكر مسيرته حتى النهاية ويرتمي في أحضان الاتفاقيات الابراهيمية . واضح ان هذه هي خيارات العسكر ، وهذا الذي يفسر استقبال السودان مؤخرا لوزير خارجية حكومة تعيش عزلة داخلية وتعتبر الأكثر عدوانية وتطرفا وعنصرية وفاشية في تاريخ دولة اسرائيل . غير ان الأمور في هذا البلد العربي لا تتوقف عند حدود إرادة العسكر ، فهناك أحزاب السودان والرأي العام في السودان . قادم الأيام سوف يأتي بالخبر اليقين ليس فقط في السودان بل وفي بلدان عربية أخرى مهدت طريقه لمسار صعب ، لن يقوى الساحر نتنياهو على معالجة تداعياته بالهروب الى الأمام من أزمة نظام يتحول بتسارع نحو الفاشية .