مع قيام الولايات المتحدة الامريكية بانتهاك القانون الدولي، واختراق أصول اللياقة العامة، من خلال نقل السفارة الأمريكية من تل ابيب إلى القدس، ومع اضطهاد إسرائيل المستمر للفلسطينيين، وقتلهم، يأتي نشر كتاب “الجانب الآخر من الجدار: شاهد حي على احتلال فلسطين”، في وقت مناسب، بل ومثالي.
مظالم مروعة
قام مؤلف الكتاب، ريتشارد هارديجان، بزيارات الى فلسطين، من بينها زيارة خلال صيف العام 2014. وخلال فترة وجوده في فلسطين، شهد مظالم واعتداءات مروعة ارتكبها جنود مدججون بالسلاح من جيش الاحتلال، ومعهم عدد من المستوطنين على مجموعة من المواطنين الفلسطينيين العزل. ويتذكر الكاتب ان أحد الناشطين الأجانب أخبره أنه شاهد بنفسه إصابة (8) أشخاص بالرصاص الحي، في قرية نعلين قرب رام الله، وذلك في أول مظاهرة شارك فيها في فلسطين.
ويقول الكاتب انه لا ينسى ان هؤلاء الفلسطينيين تم استهدافهم من قبل جنود الاحتلال، على الرغم من انهم لم يكونوا مسلحين، وكانوا داخل بلدتهم. ورغم ذلك، تعرضوا لإطلاق نار كثيف من قبل جنود الاحتلال. ويصف المؤلف الحدث بعد وقوعه، فيقول “ان الحدث يظهر، بالدليل القاطع، ان جنود الاحتلال لا يقيمون أي وزن لأرواح الفلسطينيين، ولا تعنيهم سلامة الشعب الفلسطيني باي حال من الأحوال. ويضيف “ان إطلاق النار، والمضايقات المستمرة، والانتهاكات المستمرة لأبسط حقوق الإنسان ما هي الا جزء بسيط من استراتيجية التعامل القاسية التي تتخذها إسرائيل بحق الفلسطينيين”.
ويسرد الكاتب بعضا من شهاداته بالقول “لقد كان من المدهش جدا بالنسبة لي كيف ان الاحتلال منتشر على نطاق واسع في كل بقعة من الأراضي الفلسطينية، عبر الالاف من جنوده، فضلا عن المستوطنين. وقد التقيت بعدد لا يحصى من الناس، وكل واحد منهم روى لي رواية مختلفة ومروعة عن معاناته من قبل الاحتلال الإسرائيلي”.
ويضيف انه استقل في زيارته الأخيرة احدى سيارات الأجرة المارة، بطريقة عشوائية، ودون تخطيط. وقد روى ان شرطة الاحتلال فرضت عليه غرامة مالية قدرها (40) ألف شيكل، وأبقته قيد الإقامة الجبرية لمدة (18) شهرا، مما تسبب في استنزافه ماديا، وأدى في النهاية الى حرمانه من العمل، وجفاف مصدر رزقه على إثر ذلك.
ويعلق الكاتب بالقول ان الاختيار العشوائي لسيارة اجرة مارة، مع وجود كل تلك الالام والماسي التي تحملها، تعكس مدى المعاناة، والحياة المرة، التي يعيشها الفلسطينيون.
ويقول الكاتب، انه التقى بشخص آخر، اسمه مروان. حيث كشف له مروان عن احدى يديه التي يظهر عليها تشويها دائما، حيث قام جنود الاحتلال بكسرها، كسرا شديدا، جعل من الصعب عليه العثور على عمل”.
عاش الكاتب، هارديجان، لفترات مختلفة مع فلسطينيين، ونشطاء أجانب آخرين. حيث جرب الظروف التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال. فتعرض لحرارة الصيف الحارقة، والخوف من هجوم جنود الاحتلال في أي وقت، والعنف الاحتلالي في كل نقطة يمر منها الفلسطينيون، وصعوبة العيش، ومقتل الأبرياء، وحزن أحبائهم، والدموع الحارقة التي يذرفونها.
كل هذه الظروف عايشها الكاتب وعاشها مع الفلسطينيين في بلدهم أكثر من مرة.
ويضيف، انه كان دائم الشعور بالقلق على سلامته الشخصية، على الرغم من أنه لم يكن يفعل أي شيء على الاطلاق، سوى التقاط الصور. فقد كان يدرك تمام الادراك ان جنود الاحتلال سبق ان قاموا بإطلاق النار دون سبب على اشخاص فلسطينيين لم يفعلوا شيئا. وانهم قتلوا متظاهرين فلسطينيين على الرغم من انهم لم ينخرطوا في أي سلوك يمكن وصفه، بأي شكل، بأنه سلوك عنيف. كما فعلوا خلال تظاهرات للفلسطينيين قرب سجن عوفر قبل عدة أشهر، علما انه تم تصوير تلك الحادثة بالفيديو، مما أدى الى جذب الانتباه الدولي بشكل واسع.
الإصرار الفلسطيني
وبالتوازي مع هذه الروايات المروعة، وعلى الرغم من الجراح، والاصابات والماسي، في صفوف الفلسطينيين، الا انه لا يمكن للمرء الا ان يرى التصميم الفلسطيني، ورغبتهم بالحرية، ومرونتهم، وقدرتهم على التأقلم الدائم.
ويضيف الكاتب انه عايش عشرات الأمثلة على قمع الفلسطينيين بشتى الوسائل. حيث شاهد مثالا على إطلاق سراح سجين سياسي من سجون الاحتلال. ورغم إطلاق سراحه، والأجواء التي صاحبتها، حيث اجتمع أكثر من (100) شخص للاحتفال بعودته إلى اهله، الا ان ذلك لم يزيل الظروف والاثار المحيطة بهذا الشخص، بسبب الأهوال اليومية التي يخلفها الاحتلال عليه، وعلى عائلته، وعلى بلدته، وجيرانه، والفلسطينيين عموما. يكفي فقط ان تعرف انه يوجد لهذا الشخص اخ شهيد، واثنان اخران ما يزالان في سجون الاحتلال.
ويضيف الكاتب، انه خلال فترة وجوده في الأراضي الفلسطينية، تم اختطاف وقتل (3) مستوطنين إسرائيليين، يعيشون بصورة غير شرعية في مستوطنات الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن سلطات الاحتلال سرعان ما كشفت خيوط الحادثة، وعرفت ان الثلاثة قد ماتوا، وانه أمكنها تخمين الفاعلين والقبض عليهم، الا انها قامت بحجب هذه المعلومات من الجمهور، لإعطاء جيشها ذريعة للقيام بعمليات تفتيش من منزل إلى منزل، وقتل الناس، واعتقال مئات الأشخاص، وتخريب المنازل، وتدمير الممتلكات، ومن ثم شن حرب على غزة، أودت بحياة المئات من الفلسطينيين.
كما أذكى هذا التصرف، من سلطات الاحتلال، الكراهية الى حد غير مسبوق، وأشعل روح الانتقام، بطريقة أوعزت الى المستوطنين برسالة “ان بإمكانهم قتل الفلسطينيين بأريحية ودون قلق”. وفي هذا السياق المستعر، وفي ظل تتالي الاحداث وتسارعها، قام متطرفون إسرائيليون باختطاف فتى فلسطينيا، وحرقه حيا في أحد احياء مدينة القدس.
ويضيف، في حلقة أخرى من سلسلة معاناة الفلسطينيين، دخل حوالي (50) جنديا إسرائيليا منزل نديم سليمان، بعد منتصف الليل، مطالبين بطريقه فجة بإخبارهم عن “مكان وجود بندقيته”. كان نديم معلما في المدرسة، ولم تكن لديه اية بنادق. الا ان الجنود عمدوا الى تقييد نجله، ابن ال (20) عاما، وألقوا به خارج المنزل، مخضعين إياه الى استجواب وتعذيب دام لأكثر من (3) ساعات. كما قاموا بجمع بقية أفراد العائلة جميعا في غرفة واحدة، بمن فيهم أطفال دون عمر (8) أشهر، وعدد من الأطفال الآخرين. ومرة أخرى، استجوبوهم فردا فردا، وبكل قسوة، عن البنادق.
وبعد ان مل الجنود، صاح أحد الضباط: “انظر الى ما سنفعله الان إذا لم تسلم لنا البندقية”. وفور ذلك، قاموا بإرهاب الأطفال، ومهاجمة المنزل، وتمزيق الأرائك، وتحطيم الكراسي، وألقاء الرفوف على الأرض، وتكسير الأجهزة الكهربائية، وتدمير أجهزة الكمبيوتر. ولم يتوقف الامر هنا، بل صعدوا الى سطح المنزل وقاموا بتخريب خزانات المياه جميعها.
وفي النهاية، ثبت للجميع انها كانت عملية “تسلية” سمجة من جنود الاحتلال، وانه لم يكن هناك اية بندقية.
النشطاء الأجانب
يتناول الكتاب أيضا تفاصيل عمل العديد من النشطاء الأجانب، وردود فعل جنود الاحتلال على وجودهم، من نواح كثيرة. ومن بين هؤلاء، يصف الكاتب بعض الاحداث التي حصلت معه، او شهدها بنفسه. ويصف النشطاء الأجانب بأنهم فعالون وشجعان. غير ان الكاتب يقول: “انا أصف متضامنين شجعان، رجالا وسيدات. غير انني اقلل من نفسي، واحتقر شجاعتي، في كل مرة أتذكر بها الشجاعة الحقيقية، وهي شجاعة الفلسطينيين”.
وبالنسبة الى معظم الناس، فان مشاهد الرعب، وقصص المعاناة، والاحزان، وقصص الاضطهاد للفلسطينيين، هي أحداث وصور بعيدة. وفي بعض الأحيان، لا يسمع الناس بها، ولا يشاهدوها الا في الأخبار، ووسائل الإعلام الاجتماعي.
اما هذا الكتاب، فيجلب القارئ إلى واقع الحياة المرة التي يعيشها ملايين الفلسطينيين، حيث يمثل وصفا مؤلما ومحزنا لمظالم لا توصف، يتحملها الملايين من الفلسطينيين، وبشكل يومي.
ويشرح هارديجان الخطوة الضرورية التي من شانها تغيير هذا الوضع، فيقول:”…ان الطريقة الوحيدة لإنهاء الاحتلال هي أن يوقف اليهود المؤثرون، أينما كانوا، مساعي تمكين إسرائيل. والطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالاها تحقيق ذلك هي إذا قام عدد كاف من الناس في الولايات المتحدة بالضغط على حكومتهم كي تتوقف عن تمويل إسرائيل. وأفضل طريقة لتحقيق ذلك هي ضمان أن الجمهور الأمريكي يدرك ويعلم ما يجري هنا. وهذا يتطلب قيام الفلسطينيين بإيصال روايتهم دون توقف.
وإحدى الطرق التي يمكن أن يدرك من خلالها الجمهور الأمريكي حقيقة وحشية وقبح الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، هي قراءة هذا الكتاب “الجانب الآخر من الجدار: شاهد عيان على احتلال فلسطين”.
وهو كتاب من الواقع، ومثير للانتباه، ومكتوب بشكل جيد. وهو كتاب لكل من يؤمن بحقوق الإنسان، وبالقانون الدولي، والآداب العامة.
وكلها مبادئ تنتهكها إسرائيل بشكل يومي.
ترجمة: ناصر العيسة، عن: “ميدل ايست أي”