محمد بلاص:
كان مشهد المستوطنين المسلحين ، ينذر بأيام “سوداء” ستحل على رعاة المواشي الفلسطينيين في خربتي الحمة وخلة حمد بالأغوار الشمالية، ويؤشر على حرب تفتقر للحد الأدنى من التكافؤ تستعر على المراعي الخضراء بين المستوطنين وأصحاب الأرض الشرعيين على سفوح فلسطين وبوابتها الشرقية.
وحتى سنوات قليلة مضت، كانت مهنة رعي المواشي تقتصر على الفلسطينيين في الأغوار، حتى بدأ المستوطنون يزاحمونهم على هذه المهنة الشاقة، ويطردونهم من المراعي التي كانوا يجوبونها وقطعان مواشيهم لعقود طويلة من الزمن.
ومع إقحام المستوطنين لأنفسهم في هذه المهنة المتوارثة جيل عن جيل، قلبوا المشهد رأساً على عقب، حيث لم يعد رعي المواشي حكراً على أصحاب الأرض الشرعيين ممن أصبحوا محرومين من الوصول إلى المراعي التي اعتادوا على التواجد فيها لسنوات طويلة، ولهم في ذكريات تسبق عمر الاحتلال بكثير.
وبحسب خبير الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية في الأغوار، عارف دراغمة، فإن الأوضاع تزداد سخونة في مناطق متفرقة من الأغوار بين رعاة المواشي الفلسطينيين والمستوطنين ممن يطاردون الرعاة ويهددون حياتهم تحت سمع وبصر قوات الاحتلال التي لا تحرك ساكناً في منع هؤلاء من ممارسة اعتداءاتهم.
هجمة شرسة
“هي معركة تفتقر للحد الأدنى من التكافؤ بين الطرفين”، قال دراغمة وهو يتحدث لـ”الأيام” عن حجم الهجمة الشرسة التي يتعرض لها رعاة المواشي من قبل المستوطنين، وبدأت عندما بدأ هؤلاء بوضع معرشات وبركسات تشكل أنوية لبؤر استيطانية جديدة على قمم الجبال وفي المواقع الإستراتيجية والمراعي الخضراء.
وأضاف: “نحن نتحدث عن طرف مسلح بكل الإمكانيات وهم المستوطنون في مواجهة رعاة المواشي ممن لا حول لهم ولا قوة، ويعتمدون في مصدر عيشهم على تربية المواشي التي لم يعد بإمكان الكثيرين منهم إطعامها في ظل سيطرة المستوطنين على المراعي الخضراء ومنعهم من مجرد الوصول إليها، في وضع يهدد قطاع الثروة الحيوانية برمته”.
وفي شهادة له، قال الثمانيني عبد دراغمة من خربة سمرة وهو متزوج وأب لتسعة أبناء: “أعمل في تربية المواشي، إنها مهنة نتوارثها في عائلتنا من جيل إلى جيل، ونحن نعتاش ونربي أولادنا من ذلك، وتوفيت زوجتي الأولى قبل سنوات وجميع أولادي قد تزوجوا وغادروا للبحث عن أرزاقهم في أماكن أخرى، وعند ذلك تزوجت ثانية، وأردت أن أستمر في حياتي”.
وأضاف: “قبل الاحتلال كنا نتنقل في أراضينا في خربة سمرة وخربة السويدة وخربة المزوقح، وكانت حياتنا ممتازة، فلا احتلال ولا معسكرات جيش ولا مستوطنين، وكانت أغنامنا تتحرك بحرية في المراعي وكانت لنا أراض واسعة فسيحة، وكان رزقنا جيداً وكنا مرتاحين في حياتنا، وطيلة عشرات السنين سكنت في خربة السويدة مع أسر أخرى من عائلتنا الكبيرة”.
حياة جحيم
وتابع دراغمة: “بعد حرب 1967 انقلبت حياتنا إلى جحيم، فجاء الجيش وطردنا من منطقة خربة السويدة، واعتدى علينا جسدياً وصادر مواشينا وقتل الكثير من الأغنام، وعندها هربنا وتركنا كل شيء وراءنا فقط لكي نحافظ على حياتنا وحياة أولادنا، ومنذ ذلك الحين والمصائب تلاحقنا واحدة تلو أخرى ولم نعد إلى حياتنا الطبيعية، لقد سلبنا الاحتلال رزقنا وكل ما كان يجلب لنا السعادة، وأصبحت حياتنا صعبة جداً”.
وأردف: “بعد أن هربنا من خربة السويدة ومن خربة المزوقح انتقلنا للسكن في خربة سمرة، في البداية كانت تسكن هنا معنا عشرات الأسر، أما اليوم فلم يبق سوى نحن وأسر معدودة، لأن الحياة هنا أصبحت جحيماً، وقبل بضعة سنوات جاءت إلى هنا جرّافات وهدمت خيامي وخيام أولادي والجيران، وقالوا لنا: إن سبب ذلك أننا لا نمتلك تصاريح بناء لتلك الخيام، لكنهم في الوقت نفسه يبنون بيوتا بالمستوطنات”.
وأضاف: “هكذا ظلت حياتنا تتدهور وساءت الأحوال بشكل خاص في السنتين الأخيرتين، حيث جاء مستوطنون فجأة وأقاموا خياماً على رأس تلة خربة المزوقح، ونحن نملك في تلك المنطقة أراضي طردتنا منها سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية بادعاء أنه ممنوع الرعي فيها، واليوم يرعى المستوطنون أبقارهم في تلك الأراضي نفسها في الوقت الذي لا يسمح لنا فيه بجلب مواشينا إلى تلك المراعي، نحن نخافهم لأنهم مسلحون والجيش يقف إلى جانبهم ضدنا ويطردنا من المنطقة بحجة أنها منطقة عسكرية ولكن الأوامر العسكرية التي تسري علينا لا تسري على المستوطنين”.
مستوطنون وكلاب
وقال: “قبل نحو عام انتقل المستوطنون من خربة المزوقح إلى خربة السويدة وأقاموا هناك خياماً لهم، بالنسبة إلينا كانت هذه كارثة، فالسويدة أرض أجدادي ومساحتها تمتد على آلاف الدونمات، والآن أغلقها المستوطنون ونحن لا قدرة لنا ولا قوة لتغيير الوضع، وجلب المستوطنون أبقاراً وأغناماً ترعى في مراعينا أمام أعيننا في الوقت الذي نمنع فيه من دخولها والسكن فيها”.
وعلى مدار الساعة، قال دراغمة: إن المستوطنين يتجولون في المراعي ترافقهم كلاب شرسة، ويهددون بأنهم سيقتلون أولادي وأسرتي ويهددون الرعاة الآخرين بالقتل إذا دخلنا إلى تلك المراعي، وعدة مرّات توجهنا إلى الجيش بالشكاوى ولكن الجيش يقف إلى جانب المستوطنين، ويقيد رعاة الأغنام ويجبرهم على العيش في مناطق بعيدة، وأصبحت حياتنا علقماً وفوق ذلك بدأت تتراكم علينا الديون”.
وتابع: “كانت المراعي تزود الأغنام بطعامها وكذلك كنا نجمع لطعامنا الأعشاب الصالحة للأكل، ولكن اليوم أصبحت حركتنا محصورة في مساحة ضيقة جداً وأصبحنا مضطرين لشراء الأعلاف لمواشينا بأسعار باهظة جداً، واضطررت لبيع عدد من أغنامي لأجل شراء الأعلاف وهكذا فعل بقية الرعاة في المنطقة، وهذا الأمر يصعب علينا حياتنا بشكل كبير اقتصادياً ونفسياً، ونحن لا ندري ماذا نفعل”.
في السنوات الأخيرة، قال دراغمة: “أخذنا ننتقل في الصيف إلى مناطق بعيدة لأنهم يقيّدون حركتنا ولم يبق لمواشينا مكان ترعى فيه، ونضطر إلى ترك خيامنا والسكن قرب مراع في منطقة طوباس وهذا يضيف معاناة فوق كل ما نلاقيه من صعوبات، فحياتنا صعبة أصلاً وعندما جاء المستوطنون تحولت إلى جحيم، ونحن نعيش في قلق دائم بسببهم؛ خوفاً على أنفسنا وعلى أولادنا ومواشينا، هذه أراضينا نحن فبأي حق يستولون عليها؟”.
زهرة أيوب
وفي إفادة أدلت بها لمركز “بتسيلم”، قالت المواطنة زهرة أيوب “64 عاماً” من خربة الحمّة، وتعمل في تربية المواشي: “منذ زواجنا أسكن مع زوجي في خربة الحمة، واضطررنا عدة مرات إلى الانتقال هنا من منطقة لأخرى بسبب الجيش والإدارة المدنية، وكانت المرة الأخيرة في السنة الماضية حين هدموا البركسات التي كنا نسكنها وحظائر الأغنام ولم يبقوا لنا شيئاً، وكان ذلك بحجة أننا بنينا دون ترخيص، ولأنه ليست لنا قدرة على تحمل تكاليف بناء البركسات لأنها تكلف كثيراً استعضنا عنها بإقامة خيام”.
وقالت أيوب: “أصبحت حياتنا صعبة بشكل خاص منذ أن أقاموا البؤرة الاستيطانية الجديدة، فالمستوطنون يلاحقوننا حتى بيوتنا يصرخون علينا ويصوروننا ويطالبوننا بمغادرة المكان ويقولون: إن هذه الأرض لهم مع أنهم مستوطنون أصلاً.. إنهم يصورون حظيرة الأغنام حتى، وعندما يخرج أبنائي مع المواشي إلى المرعى يلاحقهم المستوطنون، وكثيراً ما رشقوا مواشينا بالحجارة حتى أن عدداً من الأغنام أجهضت بسبب مطاردة المستوطنين لها ورشقها بالحجارة”.
وأردفت بحزن: “بسبب صعوبة الخروج مع أغنامنا إلى أراضينا لترعي فيها، أصبحنا مضطرين لشراء العلف لكي نطعمها وهذا عبء ثقيل علينا اقتصاديّاً، لقد تراكمت علينا الديون من شراء الأعلاف وأضيف هم آخر فوق همومنا، نحن نعيش بصعوبة والأرباح من تربية المواشي بالكاد تكفي لمعيشتنا، ولا نستطيع شراء العلف طيلة أيام السنة لأن هذا يحملنا خسائر كبيرة لا قدرة لنا عليها”.
غرباء في أرضنا
وتابعت: “نحن نعيش بلا كهرباء وليست لدينا مياه جارية، وصادر ضباط من الإدارة المدنية الألواح الشمسية التي تبرعت لنا بها منظمة إغاثية، ونضطر إلى شراء المياه المنقولة بالصهاريج من منطقة عين البيضا، وفي المقابل تجد أن المستوطنين منذ أن جاؤوا وصلوهم بالمياه والكهرباء بسرعة مدهشة، بل إنهم غرسوا أشجار الزيتون أيضاً، ولو أننا نحن الذين غرسنا أشجاراً لجاء الجيش والإدارة المدنية واقتلعوها”.
وأضافت أيوب: “لا أعرف ماذا أفعل، لا تغمض عيناي في الليالي ولا شيء يطمئن بالي، وأخاف على أولادي وأخشى أن يصيبهم سوء، وأتساءل: كيف يمكنهم أن يقضوا حياتهم هنا؟ أنا أصبحت مسنة ولا أخاف على نفسي ولكني أخشى على مصير أولادي ومصير أولادهم”.
“لا أفهم ماذا يريدون منا”، قالت أيوب، وأضافت: “نحن لا نضايقهم في شيء، هم الذين يضايقوننا ويلاحقوننا في كل مكان، وقلت لأولادي: دعونا نغادر إلى مكان آمن ولا يهم أي مكان، ولكنه قالوا لي: لا يوجد مكان آمن ولا يوجد مكان يخلو من المستوطنين، لقد سيطروا على كل الأراضي، وقلت لهم: لنذهب إذن إلى نابلس، ولكنهم قالوا لي: حتى نابلس سيطر المستوطنون على معظم أراضيها”.