بقلم: عميرة هاس
علقت على مبنى في سوق الجملة بالبلدة القديمة في الخليل، الذي تسعى وزارة الدفاع لهدمه منذ بضعة أشهر، لافتة من القماش، وُضع على جهة منها صورة زئيف جابوتنسكي، وكتب “سنعيد بناء الحي اليهودي (السوق) في الخليل”، وعلى الجهة الأخرى كتب اقتباس يمكن أن يكون من أقواله “سنعيد مجدداً بناء كل ما قاموا بتخريبه، نحن نتمتع بهذه الموهبة. ويجب علينا إعادة بناء ما قاموا بتخريبه وتدميره بشكل أكبر”. اللافتة بتوقيع الاستيطان اليهودي في الخليل.
لا شك أن مستوطني الخليل وأعوانهم الكثيرين أثبتوا في الخمسين سنة الأخيرة القدرة على مواصلة بناء المزيد من المباني لليهود. وهي تبرز عبر الحجارة البيضاء في وضح النهار ومن خلال المصابيح التي تلقي عليها وعلى ما حولها أضواء ساطعة في الليل، طوال الليل. ولكن المستوطنين وسلطات الجيش والإدارة المدنية بالأساس أثبتوا القدرة على إخلاء موثق ومعروف للجميع لمركز مدينة الخليل من السكان الفلسطينيين عبر التنكيل المستمر بهم. وبالأساس من خلال أوامر ومنع الحركة التي فرضها الجيش من أجل حماية اليهود.
يمكن الافتراض أن من علقوا اللافتة على مبنى سوق الجملة لم يتفاجؤوا بالرسالة التي أرسلها، الأحد الماضي، وزير الدفاع، نفتالي بينيت، إلى وحدات بمكتبه، مكتب منسق أعمال الحكومة في “المناطق”. في هذه الرسالة وجه الإدارة المدنية للبدء في خطوات لخطة “إخلاء – بناء” في الموقع. أي هدم مبنى بملكية بلدية الخليل بعقد تأجير محمي، وإقامة وحدات سكنية لليهود مكانه. هذه الخطة بدأ بها الوزير السابق، أفيغدور ليبرمان. ولكن هذه الخطة ليست هي النهاية.
إشارة إلى الطموحات غير المتوقفة لمستوطني الخليل يمكن إيجادها في الخارطة المشمولة في كراسة “مغارة الماكفيلا – جذور الشعب اليهودي” التي نشرها الاستيطان اليهودي بالخليل في العام 2014، والتي يتم بيعها على بسطة أمام “مغارة الماكفيلا” (الحرم الإبراهيمي).
تشير هذه الخارطة إلى ثلاث مناطق بثلاثة ألوان مختلفة. الأزرق الفاتح “منطقة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية باسم أتش 2. الأزرق الغامق “استيطان يهودي” والبني المائل إلى البرتقالي “منطقة تحت السيطرة الأمنية الفلسطينية” باسم أتش 1. أسماء الشوارع في المنطقة الملونة باللون الأزرق الفاتح تم تهويدها منذ زمن. شارع الشهداء سمي باسم شارع الملك داود، وفي حي تل الرميدة والجعابرة توجد شوارع مثل “شارع 1929” وشارع “معاليه هأفوت” و”سعاديا هحبروني”.
ولكن تهويد الشوارع امتد إلى خارج المنطقة باللون الأزرق الفاتح، ووصل إلى المنطقة باللون البني. شارع بئر السبع بقي على حاله. ولكن شارع الشلال الكبير أصبح شارع حاييم يوسف دافيد أزولاي، وشارع الشلال الصغير أصبح شارع الجد من سلوفدكا (نتان تسفي فنكل) مؤسس المدرسة الدينية “كنيست إسرائيل” في ليطا، والتي انتقلت إلى الخليل في العام 1925.
شارع الملك حسين أصبح شارع الهيكل. أما شارع عين سارة، وهو شارع طويل ورئيسي ويضج بالحياة وفيه توجد بلدية الخليل، فيسمى في هذه الخارطة شارع “كنيست إسرائيل”. وقريباً من البلدة القديمة يتحول إلى اسم باب الزاوية. وشارع الحاخام بيجايو، بلغة الخارطة في الكراسة، التي كتبها وحررها المتحدث باسم الاستيطان اليهودي نوعام ارنون. ميدان ياسر عرفات هو بلغة هذه الخارطة “كيكر هيوفال”، في حين أن شارع المنارة هو شارع “5 أيار”.
لا يمكن اعتبار تهويد الشوارع في الخليل الموجود بالخارطة هذياناً لأشخاص غريبي الأطوار. الوضع في البلدة القديمة بالخليل في الجزء الذي يقع تحت سيطرة المستوطنين، هو وضع سريالي، لكنه حقيقي جداً: قلب المدينة فُصل عنها. والسفر بالسيارة محظور على الفلسطينيين (فقط سيارات جمع القمامة التي تجمع أيضاً قمامة المستوطنين، يسمح لها بالدخول عبر الحاجز الذي يوجد في حي السلايمة). في شارع الشهداء من المحظور أيضاً أن يسير الفلسطينيون على أقدامهم، ومن بينهم من يسكنون في الشارع ذاته. نحو عشرة حواجز يوجد فيها جنود تحيط بالمنطقة: هذه الحواجز تتشكل من هياكل معدنية محمية وبوابات تدور وتتوقف وممرات تحيط بها القضبان وذراع مانع يرفع من أجل من يريدون الدخول على الكراسي المتحركة. وبالأساس يوجد فيها جنود ورجال شرطة يسمحون للناس بالانتظار إلى حين فتح البوابة الدوارة. وتوجد أيضاً عشرات الحواجز الثابتة على شكل جدران من الإسمنت، وتفصل أبواب مغلقة بين الشوارع والأزقة.
يوجد درج رئيسي مغلق أمام الفلسطينيين. ليس من الغريب أن ثلث الـ 3400 وحدة سكنية في البلدة القديمة تم إخلاؤها من السكان مع مرور الوقت. معظم الشقق الفارغة توجد في المنطقة التي تقع تحت سيطرة المستوطنين المباشرة. ولكن في الدائرة المجاورة للحواجز يمكن مشاهدة شقق متروكة. 1500 محل تجاري مغلق منذ عشرين سنة تقريباً، ثلثها بأوامر إغلاق عسكرية، والأخرى بسبب تنكيل المستوطنين ومنع الحركة التي تصعب على الإنتاج والتجارة وتردع المشترين والموردين من الوصول إليها. في يوم الجمعة الماضي، في الوقت الذي كانت فيه سيارات إسرائيلية وحافلات لشركة تطوير “غوش عصيون” تسافر ذهاباً وإياباً، فإن المصلين المسلمين ومن بينهم شيوخ، كانوا يسيرون ببطء نحو الحرم الإبراهيمي ويعودون منه. يسيرون بجهد في أعلى الشارع المتعرج. عدد من الشباب كانوا يجرون على ظهورهم رزماً من المواد الغذائية أو الإسمنت، وأطفال كانوا في زيارة الجدة كانوا يقودون بسرعة مصطنعة ألعاباً عثروا عليها في القمامة، وبسبب الكتابة بالعبرية عليها فهي كانت تعود لروضة أطفال إسرائيلية.
“الشوارع هنا مثل حظر التجول”، قال للصحيفة أحد سكان تل الرميدة الذي تجرأ وبقي يعيش هناك. من أجل الخروج من بيته والدخول إليه عدة مرات في اليوم يجب عليه أن يمر عبر حاجز “تمار” العسكري الذي يوجد على بعد 30 متراً. وانتظار الجندي إلى أن يتفضل بالضغط على الزر الذي يفتح البوابة الدوارة التي تؤدي إلى غرفة مغلقة ويقوم بفحص بطاقة هويته، وربما يقوم بتفتيش ملابسه. بعد ذلك يفتح له بوابة حديدية أخرى تؤدي إلى مدخل محاط بالقضبان يؤدي إلى بوابة دوارة أخرى. في يوم الجمعة في الظهيرة سمع وهو يتناقش مع الجندي لفترة طويلة إلى أن سمح له الجندي بالعودة إلى بيته.
القرارات المتعمدة لحكومات إسرائيل على أجيالها (بما فيها حكومة رابين التي عاقبت الفلسطينيين على المذبحة التي نفذها ضدهم باروخ غولدشتاين) وقرارات الجيش والإدارة المدنية والمستشارين القانونيين، هي التي مكنت “مجددي الاستيطان اليهودي في الخليل” من خلق هذا الوضع السريالي الآن. مذبحة العام 1929 ضد سكان الخليل اليهود تحولت من خلالهم إلى ذريعة لطرد جماعي للفلسطينيين. الخارطة المذكورة أعلاه توجد في الكراسة التي تم إصدارها لذكرى من كان ينادي بترحيل الفلسطينيين، رحبعام زئيفي. وهي تتخيل توسيع الدوائر البلدية التي سيتم إخلاؤها من الفلسطينيين. من كتبوا الكراسة أثبتوا القدرة على ترجمة خيالهم إلى واقع.
عن “هآرتس”