بقلم : تيسير خالد
عند الحديث عن النظام السياسي ، أي نظام سياسي ، هناك عناصر ثلاثة يجب استحضارها وإلا أصبح الحديث عن النظام السياسي عديم الجدوى . العناصر الثلاثة هي : أولا : مركز صنع القرارات أي السلطة التشريعية ، وثانيا مركز تنفيذ القرارات أي السلطة التنفيذية وثالثا : مركز تفسير القرارات وهيئات إنفاذ القانون وهي السلطة القضائية والاجهزة المساعدة .
وبالتطبيق على الواقع الفلسطيني لا نستطيع الادعاء اننا أمام نظام سياسي متبلور باستثناء منظمة التحرير الفلسطينية ، بقدر ما نحن امام كيانين سياسيين أحدهما مرجعية وهمية للآخر ، وأعني هنا منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية .
في كل من الكيانين هناك غموض او التباس او صعوبة تقدير في حضور العناصر التي اشرنا اليه ، في الكيان الاول تراجعت الشخصية السياسية ( للكيان ) بعد ظهور الكيان الثاني بل يمكن القول انه جرى احتواؤها وإضعاف شخصيتها . رغم ذلك ففي منظمة التحرير الفلسطينية الأمر أوضح مما هو في السلطة الوطنية الفلسطينية . في منظمة التحرير كانت الفواصل بين المراكز الثلاثة أقل غموضا وأقل التباسا ، فهناك المجلس الوطني الفلسطيني كسلطة تشريعية لصنع القرار واللجنة التنفيذية كمركز للتنفيذ او قيادة سياسية عليا وهناك مؤسسة القضاء الثوري بقوانينه الاربعة التي صدرت عن رئيس اللجنة التنفيذية وهي قانون اصول المحاكمات الجزائية لمنظمة التحرير الفلسطينية وقانون العقوبات الثوري للمنظمة وقانون السجون ومراكز الاصلاح وقانون المحاكم على اختلاف مسمياتها المحكمة المركزية ، المحكمة الدائمة محكمة أمن الثورة ، محكمة الميدان ) كل هذا كان في اطار شبه منظم بين هذه السلطات التي تكون منظمة التحرير الفلسطينية وبين المجتمع الفلسطيني بأحزابه ونقاباته واتحاداته المهنية ومنظماته الشعبية وخاصة في الخارج ومناطق الشتات الفلسطيني . كان المجلس الوطني منتظما في اجتماعاته وأعماله وكان للجنة التنفيذية مكانتها ودورها وكان للقضاء دوره في ضبط السلوك العام ، أما الاتحادات والمنظمات الشعبية فقد كانت غير الاتحادات والمنظمات الشعبية القائمة الآن .
منظمة التحرير الفلسطينية كنظام سياسي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ومطلع التسعينات القرن الماضي كان حضورها وتمثيلها معترفا به ومتوافقا عليه وقادر على الصمود في وجه حركات انشقاقية او انقسامية لأن معادلتها لم تكن معادلة وطنية فقط بل معادلة وطنية وعربية واقليمية ودولية ، خاصة بعد الاعتراف بها في سبعينات القرن الماضي ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني ، شرعيتها كانت شرعية ثورية وشرعية شعبية راسخة في صفوف جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ، كان هذا واضحا في منتصف السبعينات ( انتخابات المجالس البلدية عام 1976 ) وفي نهاية الثمانينات ( الانتفاضة الشعبية الكبرى المباركة عام 1987 ) . على امتداد الاعوام قامت حركات تمرد وحركات انشقاق غير ان منظمة التحرير الفلسطينية بقيت معادلتها عصية تماما على هذه الحركات ومن كان يقف خلفها ويقدم لها دعما سياسيا وماليا ، لأن معادلتها كما قلنا كانت وطنية وعربية واقليمية ودولية ولأن شرعيتها كانت شرعية ثورية وشرعية شعبية . لم يكن الانشقاق عن المنظمة او التمرد عليها يخل بمكانتها ودورها ولم يكن الانضمام الى صفوفها مجانيا ، فذلك كان يشترط الدخول في الامتحان ، امتحان الشرعية الثورية وامتحان الشرعية الشعبية . كي تكون جزءا من مكونات منظمة التحرير الفلسطينية كان عليك ان تجتاز الاختبارين معا ولهذا أيضا كانت منظمة التحرير الفلسطينية كإطار سياسي جامع للشعب الفلسطيني محصنة الى حد كبير ،
في الكيان السياسي الثاني ، السلطة الوطنية الفلسطينية بدأ النظام السياسي بداية ملتبسة ، سلطاته الثلاث قائمة بالفعل ولكن دون التزام واضح وصارم بالقواعد والأصول القانونية والدستورية بين مكوناتها وفق ما جاء في القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية . هذا جانب ، وفي الجانب الأخر بدأت مسيرة الخلل على نحو حاسم في العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وبين السلطة الوطنية الفلسطينية ورست تلك العلاقة على ترسيم حدود غامضة لدور كل منهما . منظمة التحرير الفلسطينية هي المرجعية السياسية وهي المسؤولية عن الملف السياسي ، أما السلطة الوطنية فهي المعنية بإدارة شؤون المواطنين من الألف الياء في مناطق حكمها او إدارتها فأصبحت المرجعية السياسية مرجعية شكلية لا دور لها في التدخل لتصويب أو تصحيح السياسات الاجتماعية والاقتصادية للسلطة ، لا دور لها في مناقشة مواردها وأشكال انفاقها ولا دور لها في ضبط التوازن بين مكوناتها لجهة الحفاظ على الحريات العامة والديمقراطية وحقوق المواطن الأساسية . تقسيم العمل هذا كان بدائيا وقاسيا وقاد الى إضعاف مكانة منظمة التحرير الفلسطينية واحتواء دورها بل هي أصبحت في جوانب معينة هامة وربما حاسمة ملحقا بالسلطة الوطنية الفلسطينية .
لنضع جانبا اوضاع منظمة التحرير الفلسطينية ، التي تراجعت مكانتها حتى ككيان معنوي ونركز معالجتنا على وضع النظام السياسي بما هو وضع السلطة الوطنية الفلسطينية ، التي باتت شبه بديل في كثير من جوانب حياة الفلسطينيين وتحديدا في الداخل المحتل . لقد أصبح واضحا أن السلطة الوطنية الفلسطينية كنظام سياسي بات يعاني من أزمة داخلية تراكمت عواملها على امتداد الاعوام السابقة لأسباب عدة ، بدءا بفشل العملية السياسية التي بدأت باتفاقيات اوسلو مطلع التسعينات وانتهت إلى ما نحن فيه بدءا من تعميق الاحتلال وتفشي سرطان الاستيطان ، الذي ساهم بشكل متسارع في بناء نظام التمييز العنصري مرورا بالانقسام وما ترتب عليه من ازدواجية سلطة او بتعبير ادق وجود سلطتين في نفس الكيان تحت الاحتلال ، بعد الانقلاب الذي قادته حماس عام 2007 …تجدر الاشارة هنا ان البعض وقع في الخطأ عندما تبنى فكرة التداول السلمي للسلطة خاصة بعد انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 . فكرة التداول السلمي للسلطة هي من حيث المبدأ والجوهر فكرة سليمة ولا اعتراض عليها ، لكنها في الحالة الفلسطينية فكرة تحمل في داخلها بذور تناقضها ، فنحن هنا نتحدث عن سلطة ولكن أية سلطة ، انها في الواقع سلطة تحت سلطة أعلى هي سلطة الاحتلال ، إذا تجاهلنا ذلك وقعنا في دائرة الخطر ، كما حصل فعلا بعد الانقلاب الذي قادته حماس في تموز من العام 2007 .
هنا أود الاشارة الى أن المنطقة كانت قد غادرت سياسة الانقلابات باستثناء ما حدث في موريتانيا عام 2005 فجاء انقلاب حماس ليذكر بسياسة وثقافة الانقلاب ، وما ترتب عليه من انقسام تحول الى ذريعة لدى اسرائيل للتهرب التزامات كانت مطالبة بها في الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي . طبعا من الاجحاف ان نحمل الانقسام وحده المسؤولية عن توقف العملية السياسية ، فتلك العملية كانت في مد وجزر منذ شن ارئيل شارون عدوانه على الشعب الفلسطيني وأعاد احتلال المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية عام 2002 ، بل هي تعود الى ما قبل شارون ، الى ايهود باراك ، الذي استغل فشل مفاوضات كامب ديفيد ليعلن موقفه الذي بنت عليه حكومات اسرائيل في ما بعد سياستها وادعاءاتها بعدم وجود شريك فلسطيني ، ومع ذلك نستطيع الجزم بأن الانقلاب وما ترتب عليه من حالة انقسام متواصل قد عمق مأزق السلطة وأفسد الحياة السياسية الفلسطينية بتعطيله الحياة الدستورية . أصبحنا أمام حكومتين لنظام سياسي لم تكتمل عناصره ، حكومة السلطة الوطنية وحكومة الامر الواقع ، أما المجلس التشريعي فتعطلت إرادته ولم يعد مصدر سلطات وانتهى القضاء الى ما انتهى اليه . وترتب على ذلك تراجع خطير على أوضاع المؤسسات والديمقراطية الداخلية ، وتعمق المأزق بعد قرار إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية رغم مرور أكثر من ستة عشر عاما على آخر انتخابات فلسطينية ، ما أدى الى المس بحقوق المواطن الدستورية وبالحريات العامة ، والحق في حرية الرأي والتعبير وأصبحنا نشهد تراجع سيادة القانون وانتشار العائلية والعشائرية وحالة من الفلتان الأمني ، التي تفرض نفسها على المجتمع دون كوابح بين الحين والآخر . واصبحت شؤون الحكم تدار بقرارات بقانون وصل عددها حتى العام 2017 نحو 142 قرار بقانون وتضاعفت حتى بلغت علم 2021 وفق تقديرات مؤسسة الحق الفلسطينية 310 قرارات بقانون وهو امر غير مألوف في الانظمة الدستورية ويؤشر الى خلل كبير في النظام السياسي الفلسطيني .
السؤال الآن ، كيف يمكن معالجة ما نحن فيه من تدهور في أوضاع النظام السياسي الفلسطيني . لا أملك إجابة سحرية على ذلك ولا اريد العودة الى ما تم التوصل اليه اكثر من مرة في الحوارات الوطنية والحوارات الثنائية بين حركتي فتح وحماس والتي كان يجري توفير التغطية السياسية الوطنية لها مع كل اتفاق . من الصعب بل المستحيل ان نحيل أمرنا الى ما كنا قد جربناه لسنوات ، فأنت لا تستطيع ان تتوقع نتائج مختلفة إذا ما كررت التجربة من جديد بنفس الأدوات ونفس الآليات . إذن ما هي افضل الطرق للمعالجة في ارساء النظام السياسي الفلسطيني على أسس تضمن التقدم في الاتجاه الصحيح .
اذا كان القديم غير مؤهل للنجاح فإن الجديد المقترح هو العمل وفق سياسة الروافع وبآليات تكمل بعضها بعيدا عن عقلية المكاسرة او المغالبة ، فالشأن الوطني العام في حالتنا الفلسطينية لا يدار بالمكاسرة والمغالبة بل بالديمقراطية التوافقية وبتغليب التناقض الرئيسي مع الاحتلال على ما عداه بشكل مطلق وذلك على الاسس التالية :
أولا : تصويب العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية من خلال اعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية بجميع مكوناتها بدءا بالمجلس الوطني الفلسطيني وانتهاء باللجنة التنفيذية ، التي توافقنا في المجلس المركزي الفلسطيني ان تعمل باعتبارها حكومة الشعب الفلسطيني وجاء قرار مجلس الامن الدولي رقم 2334 ليعزز ذلك . أما ان تبقى اللجنة التنفيذية على حالها فهذه وصفة لاستمرار الازمة
ثانيا : التوجه نحو انتخابات عامة تشريعية ورئاسية على اساس قانون الانتخابات الذي توافقنا عليه وعدم تعطيلها بحجة ان اسرائيل تعطل مشاركة أبناء القدس في هذه الانتخابات ، فجميع معاركنا في القدس كانت ناجحة وقانون الانتخابات بالتمثيل النسبي الكامل رافعة حقيقية من روافع كسر الموقف الاسرائيلي ومدخل حقيقي لنجاح عملية ديمقراطية تعيد السلطة الى مسار عمل يؤسس لحياة دستورية تطهر هذا الكيان في النظام السياسي الفلسطيني من الكثير من الشوائب .
** مداخلة في الندوة الحوارية التي أقامتها جبهة النضال الشعبي الفلسطيني في مقرها في رام الله في الذكرى الخامسة والخمسين لتأسي الجبهة