خلص المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” في تقريره الإستراتيجي للعام 2018، إلى أن تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، يشكل لحظة فارقة لإسرائيل ويمينها الاستيطاني، تمتاز بالاندفاع المحموم نحو إنهاء حل الدولتين، وفرض منطق سياسي جديد، يتلخص بأن الحقائق الاستيطانية على الأرض هي الحلّ، وأن بقاء المستوطنات هو مرجعية أي عملية سياسية، بدلاً من أن تكون إزالتُها بنداً على طاولة التفاوض، وبهذا انتقلت إسرائيل في فترة ترامب، من الحديث عن عدم وجود شريك، إلى سلوك يقول بعدم الحاجة إلى وجود شريك.
ونبه التقرير، الذي يغطي تغيرات المشهد الإسرائيلي على امتداد العام 2017، وأُعلن عن نتائجه خلال مؤتمر نظمه المركز في رام الله، أمس، أن ما يعطي التغيير في أميركا معنى إستراتيجياً إضافياً، ليس دعم ترامب غير المشروط لإسرائيل، بل تركيبة الإدارة الجديدة التي أحاط ترامب نفسه بها، وتنطلق في دعمها وتعاملها مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، من تصورات أيديولوجية تخلط الرؤية الدينية الغيبية بالسياسة، الأمر الذي عبر عنه الاعتراف الأميركي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وقرار نقل السفارة إليها.
وأوضح التقرير أن تمكّن اليمين وتغيير النخب في إسرائيل، يتزامن مع استتباب أمني، ومع ثمن دولي منخفض لاستمرار الاحتلال، في ظل ثبات اقتصادي، مقابل استقطاب حاد في العالم العربي، وانشغال الدول المجاورة بقضاياها الداخلية، ما يشجّع مساعي حسم الصراع وفق رؤية اليمين الإيديولوجية، وما يفسر تصعيد خطاب الضم وفرض السيادة سياسياً، وشنّ هجمة تشريعية غير مسبوقة “تغسل” الضم الزاحف وتدعمه وتهيئ للمزيد منه، إلى جانب محاولة ترسيخ الحديث عن وجود صيغ مختلفة للدولة الفلسطينية الممكنة غير الصورة التقليدية (السيادية) للدولة.
نافذة فرص فلسطينية
واعتبر أنه رغم التحديات التي تفرضها التطورات الدولية والإقليمية والإسرائيلية، تبقى فرص الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل والاحتلال قائمة، بسبب كافة التناقضات التي يفرزها اصطفاف إسرائيل مع اليمين “الترامبي” والعالمي، “فالتماهي بين الإنجيلية الصهيونية، واليمين الإسرائيلي الجديد بزعامة نتنياهو يفتح أمام إسرائيل في المدى القريب، فرصة لفرض رؤيته”، لكن هذا التماهي يُنتج، برأي التقرير، عدة فرص، أولها فرصة للتحرر من الهيمنة الأميركية على العملية السياسية، ويحوّل إسرائيل ثانياً إلى “لاعب حزبي” محسوب على الحزب الجمهوري، وليست كما درجت عليه العادة، موضوع إجماع أميركي عابر للأحزاب، على ما يعنيه هذا مستقبلاً في حال تغير الإدارة الأميركية، إلى جانب ما يفتحه من نافذة للفلسطيني (إذا أحسن استخدام الفرصة) لتعزيز الربط بين القضية الفلسطينية والتيارات العالمية الديمقراطية، ولكسب مزيد من الدعم لحركاته النضالية المدنية، وخاصة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات.
انزياحات حزبية
وتناول التقرير، انعكاس التغير الأميركي على الأجواء الداخلية والحزبية، حيث قام مركز حزب الليكود، وفي خطوة غير مسبوقة وبالإجماع، باتخاذ قرار يلزم أعضاء الحزب، بالسعي من أجل “السماح ببناء حرّ وتطبيق قوانين إسرائيل وسيادتها على كل مناطق الاستيطان المحررة في يهودا والسامرة”، الأمر انعكس على “اليسار” أيضاً، فقد سعى رئيس حزب العمل المنتخب آفي غباي، إلى منافسة حزب الليكود عبر الانزياح يميناً، إذ أعلن أنه في كل حكومة سيشكلها لن يشرك “القائمة المشتركة” في الائتلاف الحكومي، ووصف “المشتركة” بأنها قائمة معادية لإسرائيل، ثم أعلن أنه ليس من الضروري إخلاء المستوطنات في إطار اتفاقية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ثم عاد أنه في حال فشل المفاوضات مع الفلسطينيين، سيقوم بتنفيذ انسحاب من طرف واحد، وأن هذه الخطة لا تفرض إخلاء مستوطنات”.
وتوقع التقرير أن تسرّع المخاطر التي تواجهها حكومة نتنياهو بسبب قضايا الفساد المتراكمة، من الخطوات التشريعية والعملية الهادفة إلى ضم كتل استيطانية، وإعادة ترسيم حدود القدس، وقطع الطريق المستقبلي أمام حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية.
تغيير القيادة لن يغير سياسة الاحتلال
واعتبر التقرير، أن تغيير القيادة في إسرائيل، في حال حدوثه، حتى في ظل تشكل حكومات جديدة لا يقودها الليكود، لا يعني أن إسرائيل ستشهد بالضرورة تغيراً في المواقف السياسية المرتبطة بالاحتلال والاستيطان، وذلك بسبب انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، وتحول خطاب اليمين المرتبط بالحفاظ على يهودية الدولة والحفاظ على المستوطنات، والتعامل بعدائية مع الفلسطينيين في الداخل، والتشكيك بنوايا القيادة الفلسطينية من السلام إلى جزء من الخطاب المهيمن.
وأضاف التقرير: قد يؤدي سقوط نتنياهو إلى ظهور لاعبين جدد في المشهد السياسي-الحزبي، من خلال تشكيل حزب جديد أو حتى أحزاب جديدة، ومن الشخصيات المرشحة للبروز في المرحلة الحزبية المقبلة وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، ورئيس هيئة الأركان العامة السابق غابي أشكنازي، إضافة الى الحديث عن فرص تشكيل تحالف بين رئيس حزب “يوجد مستقبل” يائير لبيد، ووزير المالية الحالي موشيه كحلون.
وعاد التقرير، وأكد أن وراء الانزياح نحو اليمين تغيرات بنيوية عميقة، ترتبط بالتغيرات الديمغرافية المجتمعية وبالتحولات الاجتماعية، حيث جرت عملية إعادة تموضع لأجزاء من الفئات التي اعتبرت هامشية (من حيث قوة التأثير)، كالشرقيين، وسكان مدن التطوير، و”الحريديم”، والجماعات الاستيطانية في مركز اتخاذ القرار، مقابل إزاحة تدريجية لقوى المركز المؤسسة من الجماعة الاشكنازية العلمانية ذات التوجه الاشتراكي إلى الهوامش، ويشكل التنافس على رئاسة حزب العمل معقل الاشكنازية العلمانية التقليدية مؤشراً مهماً في هذا السياق لهذه التحولات، حيث تنافس على رئاسة الحزب مرشحان من أصول شرقية مغربية، هما عمير بيرتس، وآفي غباي الذي فاز بالرئاسة.
وأسهب التقرير: أفرزت التغيرات البنيوية في إسرائيل، وتحول بنى النخب، عدة نتائج مهمة، على رأسها صهينة مستمرة لقطاعات كانت خارج الصهيونية كالحريديم، الذين باتوا يشكلون اليوم أكبر فئة استيطانية (30% من المستوطنين)، إضافة إلى تحول دعم الشرقيين لليمين من دعم احتجاجي، كما كان عليه في التصويت العام 1977 إلى دعم أيديولوجي .
الواقع الإقليمي
وعلى الصعيد الإقليمي، قال التقرير: إن التغيرات في الساحة السورية، من حيث انحسار قوة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من جهة، مقابل ما تراه إسرائيل تعززاً للوجود الإيراني من جهة أُخرى، أحد أكثر التحديات التي شغلت المستويين السياسي والأمني في إسرائيل.
وأورد أن الجبهة الفلسطينية تشكل أكثر الجبهات القابلة للانفجار وفق التقديرات العسكرية الإسرائيلية، التي عبرت عنها وثيقة “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي”، التي وزعت أواخر العام 2017، إلا أنها أدرجت كثاني التهديدات التي يستعد لها الجيش، إذ يسبقها من وجهة نظر هيئة الأركان العامة، تهديد المحور الشيعي الذي تؤسسه إيران، ويضم في السنتين الأخيرتين سورية، إلى جانب حزب الله في لبنان.
وتابع: أدى تعزز الوجود الإيراني وحلفائه من قوات شيعية في سورية، إلى تحديث التقديرات الإسرائيلية بخصوص شكل المواجهة المقبلة، والادعاء بأن الجبهة السورية والجبهة اللبنانية، اندمجتا في جبهة واحدة جديدة هي “الجبهة الشمالية”، ما يعني أن الحرب المقبلة ستكون أول حرب تُخاض أمام الجبهة الشمالية المتحدة، وليس أمام جبهة منفردة سواء أكانت اللبنانية أم السورية.
تحديات أمام الفلسطينيين في الداخل
وبالنسبة للفلسطينيين في الداخل، أوضح التقرير وجود عدة عوامل وتحديات تهدد نسيجه الداخلي، تضم مشكلة العنف المتفاقم ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة، يُضاف إليها ازديادٌ ما في النغمة الطائفية التي تهدد هي الأخرى هذا النسيج.
ونبه التقرير إلى أنه على مستوى السلطة الإسرائيلية، فيبدو أن هناك سياسة آخذة في التبلور رويداً رويداً، تقوم على الاحتواء الاقتصادي للنخب، مقابل مواجهة سياسية مفتوحة مع النخب السياسية والأحزاب، وتصعيد في عنف الشرطة والتحريض على المواطنين الفلسطينيين، وتواطؤ سلبي غير مكتوب، وغير واضح المعالم، مع الجريمة المنظمة داخل المجتمع الفلسطيني.
وفي معرض تعقيبه على التقرير، أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، د. علي الجرباوي، أن تماهي الإدارة الأميركية المطلق مع اليمين الإسرائيلي، وحمايتها الكاملة لإسرائيل في المحافل الدولية، يشجع الحكومة الإسرائيلية على المضي قدما في مخططاتها لتصفية القضية الفلسطينية.
ولفت إلى أن الإدارة الأميركية تملك رؤية للصراع الفلسطيني –الإسرائيلي، تقوم على تقويض الشرعية الدولية فيما يتعلق بحل الدولتين، بمعنى أن الرؤية الجديدة لا تنطلق مما ورد في قرارات الشرعية الدولية بخصوص اقامة الدولة الفلسطينية على حدود الأراضي المحتلة العام 1967.
وقال: هناك توافق أميركي –اسرائيلي على تقويض الشرعية الدولية فيما يتصل بحل الدولتين، بمعنى أنه قد يكون مقبولا بالنسبة إليهما اقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، أو أجزاء من الضفة.
وبخصوص ملف التسوية، ذكر أنه لا يجب التعويل كثيرا على روسيا وأوروبا، مبينا أن النتائج المتوقعة من المسار الحالي الذي يحكم الشأن الفلسطيني محدودة جدا.
وتابع: الاتجاه القائم حاليا أي الاستمرار فيما نقوم به، بمعنى اتخاذ سياسة وقائية مما يجري حولنا، لا يشكل استراتيجية على الإطلاق، وهذا الاتجاه المحكوم بالتسوية هدفه تحسين شروطها.
ورأى أن هناك اتجاها آخر لا يفضل الكثيرون تناوله أو الحديث عنه، يقوم على اعتماد استراتيجية هجومية، مبينا أن هذا الاتجاه يستند على أنه لا توجد امكانية لتسوية سياسية.
وأوضح أن مرتكزات هذا الاتجاه، تتمثل في اصلاح الوضع الداخلي، ما يستدعي انهاء الانقسام، علاوة على التوجه بقوة للمؤسسات الدولية مثل محكمة الجنايات الدولية، إضافة إلى تحديد مستقبل السلطة الوطنية.
وكان أشار نائب رئيس مجلس ادارة “مدار” د. أحمد حرب، في مستهل المؤتمر، إلى أن أهمية التقرير تنبع من تناوله للمشهد الإسرائيلي، عبر تركيزه سنويا على سبعة محاور أساسية هي: محور إسرائيل والمسألة الفلسطينية، المحور السياسي الداخلي، محور العلاقات الخارجية، المحور الأمني-العسكري، المحور الاقتصادي، المحور الاجتماعي، وأخيراً محور الفلسطينيين في إسرائيل، إضافة إلى ملخص تنفيذي يُجمل أهم المتغيرات الإستراتيجية التي تؤثر في إسرائيل وفي وجهتيها الداخلية والإقليمية.
ورأى أن المحور الأهم يتمثل في اسرائيل والمسألة الفلسطينية، لارتباط سائر المحاور به، لافتا بالمقابل إلى “أن العام 2017 كان الأسوأ استراتيجيا على صعيد تصفية القضية الفلسطينية”.
وبين أن التحدي الأكبر الذي يفرض نفسه على الجانب الفلسطيني، يكمن في مواجهة السياسة الأميركية –الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الوطنية.
قد أعد تقرير العام الحالي إلى جانب محررته هنيدة غانم، كلٌ من: عاطف أبو سيف، انطوان شلحت، مهند مصطفى، جوني منصور، عاص أطرش، نبيل الصالح، ورائف زريق.
شاهد أيضاً
الكنيست يصادق على قانوني سموتريتش ودرعي بالقراءة الأولى
صادقت الهيئة العامة للكنيست، قبيل فجر اليوم الجمعة، بالقراءة الأولى على تعديلين لـ”قانون أساس: الحكومة”، …