بقلم : تيسير خالد ***
يجب الاعتراف ونحن نحيي الذكرى الثانية والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني ، التي تزامنت مع قيام دولة اسرائيل ، أننا قصرنا في التصدي للرواية الإسرائيلية حول النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني ولم نقدم روايتنا نحن لهذه النكبة كما حصلت بالفعل . من الواضح ان للنكبة روايتان ، واحدة إسرائيلية اعتمدت الكذب وتزوير الحقائق منهجاً. والثانية فلسطينية جرى تجاهل احداثها فعلا، مقدماتها وتداعيتها وغابت عن اهتمامات الرأي العام العالمي لاعتبارات متعددة ليس أقلها شأنا أن العالم كان قد خرج للتو من أهوال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من جرائم ارتكبها الوحش النازي ، وألقت بعد سنوات معدودة بظلالها الثقيلة على جرائم كانت من صنع ضحايا النازية الهتلرية .
بنت اسرائيل روايتها على مزاعم تاريخية توراتية اعتمدت الاساطير وأقوال العرافين وتمسكت باستمرار بشرعية المشروع الصهيوني الذي يدعو للعودة الى ارض الميعاد بعد غياب قسري مزعوم استمر آلاف السنين وبأن المشروع الصهيوني جاء ينقذ اليهود من اللاسامية ومن عمليات الاضطهاد والابادة كما جرت في اوروبا وبشكل خاص على أيدي الوحش النازي . وقامت الرواية الاسرائيلية على تجاهل وإقصاء رسمي لجميع الآثار التي تشير الى وجود فلسطين قبل العام 1948، وسطت على اسماء الجبال والتلال والسهول والمدن والقرى الكنعانية القديمة
كما استخدمت اسرائيل في التأثير على الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة صورا متعددة في علم الآثار والنبات والطعام والتربية والعمارة والسياحة التي تركز على هدف محوري وهو تغييب التاريخ الفلسطيني في البلاد ، ومحو صور النكبة في وعي المواطن الاسرائيلي العادي. واعتادت ومعها الحركة الصهيونية على إنكار مجرد وقوعها والادعاء أن هدف الحديث عن النكبة هو نزع الشرعية عن إسرائيل . وواصلت التنكر للمسؤولية عنها وإحالت مسؤولية الهجرة الجماعية للفلسطينيين على الدول العربية التي دعتهم الى ذلك في انتظار اعلان النصر على المشروع الصهيوني في فلسطين . وواصلت إسرائيل ومعها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية رفضها لمجرد رؤية الفلسطينيين كضحايا لممارساتها وجرائمها وعملت بكل جهد على تجريد الفلسطينيين من القدرة على عرض أنفسهم كضحايا.
وفي أفضل الحالات عرضت اسرائيل مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية يتحمل مسؤوليتها القادة الفلسطينيون وزعماء الدول العربية. وعملت جاهدة في الوقت نفسه على محو الذاكرة بواسطة الكتب التدريسية التي تتجاهل البعد الإنساني لتبعات حرب 1948، واستنفرت آلتها السياسية والامنية والاعلامية لنزع الشرعية عن أدبيات المؤرخين الجدد التي ناقضت الرواية الصهيونية بشأن الحرب واللاجئين. وسنت قانون النكبة الذي يهدف إلى تمكين وزارة التربية والتعليم من فرض عقوبات على المؤسسات التربوية التي تُحيي ذكرى النكبة
في المقابل قصرنا نحن كفلسطينيين في تقديم روايتنا الفلسطينية كما حدثت منذ وعد بلفور وصك الإنتداب وما صاحبهما من إنكار للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في تقرير المصير . ففي وعد بلفور كما في صك الانتداب كان يجري الحديث عن غير اليهود في فلسطين وعن حقوقهم المدنية والدينية وحسب . كان ذلك يجري قبل صعود الفاشية والنازية في القارة الاوروبية وقبل محرقة الوحش النازي بسنوات طويلة ، وقد جاء ذلك في سياق تقسيم وإعادة اقتسام العالم بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى حيث ظهرت الحركة الصهيونية باعتبارها أحد أدوات الاستعمار ونتيجة طبيعية ومنطقية لتطور آليات سيطرته على بلدان المنطقة بعد نهاية الحرب .
جانب آخر لا يقل أهمية في عرض الرواية الفلسطينية هي السياسة التي سارت عليها الحركة الصهيونية ومؤسساتها في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني وما صاحبها من تطهير عرقي صامت وتهجير للمواطنين من اراضيهم المسهتدفة ببناء المستوطنات الاولى وسياسة العمل العبري وبناء المجتمع المغلق في فلسطين ، الذي كان يخطط لممارسة التطهير العرقي على نطاق واسع عندما تحين اللحظة المناسبة لذلك . كان بناء المنظمات العسكرية وشبه العسكرية بما فيها المنظمات الارهابية اليهودية يجري على قدم وساق تحت سمع وبصر حكومة الانتداب البريطاني ، وعندما جاءت اللحظة المناسبة بانسحاب القوات البريطانية في فلسطين ، كانت البلاد مسرحا لعمليات قتالية لقوات يهودية مدربة ومسلحة وتتفوق في عديدها وعتادها على الجيوش العربية ، التي شاركت في حرب العام 1948 .
وكانت خطة “دالت” للتطهير العرقي الشامل والتي اقرتها قيادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في آذار من العام 1948 جاهزة ، بعد ان أوكلت تنفيذها بتوجيهات تفصيلية الى تلك القوات ، التي بنتها الحركة الصهيونية في فلسطين بمساعدة مباشرة من حكومة الانتداب البريطاني . كانت الخطة تقوم على التطهير العرقي كهدف مركزي من أهدافها ، بتوجيهات صارمة وتفصيلية ، تدعو دون رحمة الى القتل ودب الرعب ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية وحرق البيوت والممتلكات وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع الأهالي من العودة الى بيوتهم، وترتب على تلك الخطة الاجرامية ، التي كشف عنها عدد من المؤرخين الجدد في اسرائيل أن ارتكبت ” الهاجناه ” القوة العسكرية النظامية الرئيسية ونواة الجيش بعد قيام الدولة وغيرها من المنظمات الارهابية 28 مجزرة كان اشدها هولا في دير ياسين ونفذت عمليات هدم لأكثر من 530 بلدة وقرية وهجرت نحو 800 الف فلسطيني وحولتهم الى لاجئين
هذه الرواية قدمناها مجردة دون توضيح لطبيعتها وسياقها السياسي ولم نقدم معها ما قاله مناحيم بيغن واسحق شامير وغيرهم من قادة منظمات الارهاب اليهودي عن دير ياسين مثلا ، وكلاهما أصبحا في ما بعد رؤساء لحكومات اسرائيلية . فقد قال مناحيم بيغن انه بدون دير ياسين ما كان ممكناً لإسرائيل ان تظهر للوجود ، أما اسحق شامير فقد وصف المجزرة بأنها كانت واجباً انسانياً ..
أبعد من ذلك ، ففي حين عبر السيد جاك رينيه مدير عمليات الصليب الأحمر في فلسطين أنذاك ، والذي زار القرية وعاين الجريمة المروعة ميدانيا وقدم بشأنها تقريرا تقشعر له الابدان الى الأمين العام للأمم المتحدة عبر فيه عن غضبه من الممارسات الهمجية للقوات اليهودية التي هاجمت الاطفال والنساء في القرية ، وجه مناحيم بيغن ، رئيس الأرغون الإرهابية رسالة التي القادة الذين نفذوا تلك الجريمة قال فيها : “إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع” ” تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش ، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادة إننا نصافحهم ونفتخر بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل ، وإلى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها سنقتحم ونبيد العدو ، ربنا لقد اخترتنا للفتح ” .
هذه الرواية تأخرنا في تقديمها كما جرت للعالم باعتبارها الفيصل بين الحقائق والأكاذيب والدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم ارتكابها ، الأمر الذي سمح لفترة غير قصيرة لرواج الرواية الإسرائيلية ، التي ادعت ان سكان فلسطين غادروا منازلهم استجابة لنداءات من الخارج . وقد تأخر العالم في سماع روايتنا بقدر ما تأخرنا نحن في طرح رؤيتنا وروايتنا”.
الآن ونحن ندخل عاما جديدا من أعوام النكبة الفلسطينية نلاحظ التحول في موقف الرأي العام العالمي فالوضع بدأ يتغير أولاً نتيجة صمود أهلنا في مناطق الـ 48 في وجه العدوان ومحاولة الأسرلة الدائمة وثباتهم في ارضهم كأقلية قومية حافظت على قضيتها وعلى وجودها وثانيا بفعل استعادة مخيمات اللجوء والشتات في دول الجوار لدورها كرافعة كفاحية من أجل استرداد الحقوق تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية ما ساعد في الحفاظ على قضية اللاجئين حية وعلى حقهم في العودة،هذا الحق الذي لا يموت بالتقادم كما كانت تحلم اسرائيل وكما هي اوهام الادارة الاميركية الراهنة . وتبقى مهمة الحفاظ على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتمكينها من القيام بدورها وتقديم خدماتها في مختلف المجالات الصحية والتربوية والاجتماعية والإنسانية وكشاهد على حق وطني وفردي وجماعي يجب التمسك به كموقف وطني ثابت في مواجهة محاولات تصفية أعدل قضية في تاريخ البشرية .
*** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
*** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين